كتاب عربي 21

ما يحدث في الأنبار .. أبعد من القاعدة

1300x600
1300x600
عندما يصدر مجلس الأمن الدولي بيانا يدعم إجراءات المالكي القمعية في الأنبار بذريعة محاربة "المجموعات المسلحة"، وعندما تساند الولايات المتحدة سياساته الفجة، وتعمد إلى تزويده بأسلحة نوعيّة كطائرات الاستطلاع وصواريخ هلفاير، وتتفاوض على تدريب قوات خاصة مشتركة، وتعمل على تأسيس قوعد لطائرات بدون طيار بحجة التصدي لتنظيم "القاعدة".

فأنت أمام مشهد سني حزين يكشف عن طبائع النظام الدولي الجديد الذي برز عقب نهاية "الحرب الباردة"، باعتباره "نظام قوة" يسعى لترسيخ سلطته وهيمنته وفقا لأهدافه ومصالحه الاستراتيجية عبر خلق عدو غير مرئي يستند إلى سياسات "الحرب على الإرهاب"، التي تم شرعنتها عقب هجمات الحادي عشر من سبتمر.

المالكي كغيره من الديكتاتوريين العرب يدرك جيدا طبيعة النظام الدولي الجديد كبنية قوة بعيدا عن الرطانة البلاغية الأخلاقية، ومواثيق الكرامة الإنسانية المؤرشفة، ومنظومة الحقوق والعدالة المنسية، فالكلمة السحرية الأثيرة "الإرهاب" كفيلة بالخلاص من الاستحقاقات السياسية والمساءلات القانونية.

 ألم يدمر الأسد سوريا بحجة التصدي للإرهابين، ألم ينقلب السيسي على ثورة 25 يناير بذريعة محاربة الإرهاب، وقبل ذلك كله ألم تخض المستعمرة الإستيطانية المدعوة "إسرائيل" كافة حروبها العدوانية على العرب والفلسطينيين بذات الحجج الإرهابوية.

ما يحدث في الأنبار يفضح فساد العملية السياسية في عراق ما بعد الاحتلال، ويكشف عن الخلل البنيوي المتعلق بـسياسات "الحرب على الإرهاب"، التي تتبنى مقاربة عسكرية أمنية تتعامل مع نتائج ومخرجات منظومات الفساد والاستبداد وغياب الشفافية والعدالة، ولا تلتفت إلى الأسباب والشروط والظروف الموضوعية المنتجة لظاهرة التطرف العنيف التي توصم بـ "الإرهاب"، ثم التعامل معها وفق مقاربة شمولية تكاملية تضمن المساواة وتحقق التنمية وترسخ العدالة، فسياسات الحرب على الإرهاب لا تقترب من فرانكشتاين لكنها تتصدى للوحش الذي خلقه. 

فما يحدث في الأنبار نتيجة منطقية لعراق ما بعد الاحتلال، فالعملية السياسية الفاسدة التي يديرها المالكي، والتي وضع أسسها الاحتلال الأمريكي عام 2003، وعلى الرغم من انسحاب قواته عام 2011، لا تزال آثار الاحتلال فاعلة في توليد الأزمات والصراعات الطائفية، فسياسات الهوية هي الركن الأهم من العملية السياسية، والانقسام الهوياتي الإثني بين العرب والكرد والطائفي بين السنة والشيعة يتحكم في مسارات الدولة التي بات فيها المكون العربي السني مهمشا ومهملا ومعزولا ويعامل كأقلية، إذ لم تجلب محاولات العرب السنة الانخراط في العملية السياسية سوى مزيد من التهميش والشعور بالظلم والتمييز.

 لقد استخدم المالكي كافة الوسائل الممكنة المغلفة بالقانون والشرعية لاستبعاد خصومه السياسيين، وفي ترسيخ سلطته الفردية من خلال توليه كافة الملفات الحيوية في الدولة، فهو بالإضافة لتوليه منصب رئاسة الوزراء يتولى المسؤولية عن وزارة الدفاع والداخلية والأمن الوطني، ويتحكم بتفسير وتأويل وتطبيق جملة من القوانين المفصلة على مقاسه بدءا بقانون الإرهاب الذي بات سيفا مصلتا يستخدمه للتخلص من معارضيه  وخصومه السياسيين، وتدعيم سلطته الدكتاتورية.

 كما حدث مع نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي الذي بات ملاحقا باعتباره إرهابيا، مرورا بالتعامل مع رافع اليساوي واعتقال حراساته، وأسامه النجيفي وأتباعه، وصولا إلى اعتقال النائب أحمد العلواني وقتل شقيقه، وانتهاءا بقانون المساءلة والعدالة الذي حل مكان قانون اجتثاث البعث، ومن خلاله تم تهميش واستبعاد سياسيين بارزين من السنة بحجة وجود ارتباطات مزعمومة عليا بحزب البعث السابق، كما أن قوات المالكي تنتشر بشكل استفزازي في سائر الأحياء السنيّة في بغداد، وفي كافة المحافظات التي يقطنها السنة في الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وكركوك، وديالى.

عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي وصلت ذروتها مع بدء حركة احتجاجية سنيه سلمية نهاية عام 2012، والتي تعامل معها برعونة واسستخفاف باعتبارها تمردا يقوده "الصداميين والبعثيين والإرهابين"، وصل حد قتل 50 محتجا سلميا، وجرح أكثر من 110 في مدينة الحويجة في محافظة كركوك بتاريخ 23 نيسان/ ابريل الماضي.

 وقبل أحداث الحويجة، اصطدمت قوات الأمن بالمتظاهرين في مناسبتين، في الفلوجة في 25 كانون الثاني/يناير وفي الموصل في 8 آذار/مارس  مما أدى إلى مصرع سبعة أشخاص في الحادثة الأولى وشخص في الحادثة الثانية، كما لجأ المالكي إلى تكتيكات أكثر خطورة في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، من خلال الادعاء بأن المتظاهرين ترعاهم تركيا ودول الخليج، والاصرار على أن بينهم إرهابيين ينتمون إلى حزب البعث السابق، أو أنهم مدفوعين بالعداء الطائفي.

وقد عمل ذلك على تحوّل الطائفة الشيعية نحو قدر أكبر من الراديكالية، حيث يعتبر الكثير من أفرادها حالياً هذا التحدي للوضع الراهن تهديداً وجودياً،  الأمر الذي بلور قناعة لدى المحتجين بعدم جدوى النضال السلمي، وهو ما استثمرته القاعدة بتوسيع دائرة التجنيد وتكثيف نطاق عملياتها المسلحة.

عقب اقتحام قوات المالكي خيم المعتصمين على الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، واعتقال النائب احمد العلواني، تفجرت الأوضاع في الأنبار وسيطرت قوات العشائر على الفلوجة والرمادي، وتشكلت مجالس عسكرية مكونة من عناصر عشائرية مسلحة وآخرون من بقايا جماعات المقاومة العراقية أمثال: "الجيش الاسلامي"، و"حماس العراق"، و"كتائب ثورة العشرين"، و"جيش المجاهدين"، و"أنصار السنّة"، وبعض أفراد الجيش العراقي السابق.

إلا أن رواية المالكي أصرت على أنها تواجه تنظيم القاعدة، وبأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو من يسيطر وحده على الأنبار، وبأنه يحارب الأرهاب الممتد من العراق إلى سوريا.

وزير العدل العراقي حسن الشمري كان من أشعل سيناريوهات "المؤامرة" عندما أعلن بأن هروب مئات المعتقلين من سجني أبو غريب والتاجي في رمضان الماضي ومعظمهم ينتمون إلى "القاعدة" كان مدبراً بمعرفة مسؤولين عراقيين كبار، وبأن الهدف كان اقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.

لكن الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا ليسوا بحاجة لمزيد من الحجج لقطع مسارات الثورات والاحتجاجات في العالم العربي وفي العراق وسوريا، فقد استقرت الرؤية منذ أمد على ضمان الاستقرار بأي ثمن عبر التحالف مع الدكتاتوريات تحت ذريعة محاربة الإرهاب وتدعيم الديمقراطيات العلمانية المزيفة الموالية.

الولايات المتحدة لا تسأل المالكي لماذا استعاد الفرع القاعدي في العراق رغم تمرده على تنظيم القاعدة المركزي بزعامة الظواهري، وبات ممثلا بالدولة الإسلاميىة في العراق والشام عافيته التي كان عليها قبل عام 2008، وهو يقوم  بتطوير أساليبه واستراتيجياته القتالية،  ولماذا زادت عملياته عن 30 هجوم يوميا في العراق، وهو يقوم بهجمات مركبة ومعقدة واسعة المدى كل 4 إلى 6 أسابيع.

ولماذا أصبح التنظيم يسيطر على مساحات واسعة غرب العراق وشمال شرق سوريا، وباتت جهود التنظيم في تجنيد العراقيين سهلة وميسورة، كما ظهر ذلك جليا من خلال زيادة أعداد منفذي الهجمات الانتحارية، وانضمام بضعة آلاف من الجهاديين العرب والأجانب.

ما يحدث في الأنبار أبعد من موضوع القاعدة رغم نفوذها وانتشارها وتطورها، ويقع في إطار اللعبة الاستراتيجية الكبرى التي تسعى إلى الحفاظ على المصالح الجيوسياسية من خلال توطيد العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها من دكتاتوريي المنطقة، وخصوصا عقب الصفقة بين إيران والولايات المتحدة والغرب حول الملف النووي، ومن ضمنها صفقة الكيماوي مع نظام الدكتاتور الأسد، وفي العراق مع ديكتاتورية المالكي، وبهذا يكتمل عقد الإتلاف الهوياتي الشيعي المتحد، ولا عزاء للشعوب التي تنتمي إلى الفضاء المذهبي السني الحزين الذي يتعرض للمحاصرة والتضييق والتهميش من طرف دكتاتوريه الداخليين قبل  أعدائه الخارجيين تحت وطأة سياسات "الحرب على الإرهاب" التي أصبحت وصمة خاصة بالسنة في طول العالم وعرضه. 
التعليقات (0)