هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يوم توجه المشير عبد الفتاح السيسي للمصريين، في صيف 2013، بطلب «التفويض الشعبي» لفض إعتصام رابعة بالقوة، بدا التوجّه «شعبويا» عند قائد انقلاب 3 تموز/يوليو من ذلك العام، المتفيئ بجماهير 30 حزيران/يونيو. ثمّة من أخذته السكرة في ذلك الصيف المشؤوم، صيف الفض الدموي في رابعة والقصف الكيماوي للغوطة، لتلمّس ملامح «ناصرية» و«تشافيزية» و«تقدّمية» لهذه الشعبوية «السيسيّة»، وثمّة من أعطى الصدارة لطابعها كـ»شعبوية ذات منبت محافظ»، تحاصر جماعة الإخوان من على يسارها، لكن بشكل أساسي من على يمينها.
كثيرا ما يجري استخدام مصطلح «الشعبوية» على نحو مبهم أو عشوائي أو فارغ. كي يكون للاستخدام في هذا الصدد معنى، يفترض بالظاهرة «الشعبوية» أن تنبني على مزعم أنّها «تجسّد الشعب». لا يعود «الشعب» في الشعبوية هو مصدر السلطات فحسب، بل يصبح «سلطة فوق السلطات» تتجسّد في الظاهرة الشعبوية نفسها، وفي الزعيم الشعبوي بالتحديد.
في الشعبوية، الشعب ليس فقط مصدر السلطات بل إرادة فوق المؤسسات وفوق التمأسس، إرادة تشتبه سلباً بالتمأسس نفسه على أنّه خيانة لهذه الإرادة.
فالمؤسسات في الديمقراطية التمثيلية تفترض الابتعاد النسبي عن المصدر الشعبي لشرعيتها وتولية من يشغل مقاعدها ومناصبها، بمثل ما تفترض الرجوع المنتظم والمتجدّد لهذا المصدر الشعبي لإعادة إنتاج طاقمها برصيد تمثيل ومحاسبة. تنمو الشعبوية على افتراض عدم كفاية كل هذا، بل سوء كل هذا. وفقا لمنطوقها، ما لم ينوجد «مبدأ» يتحقّق في شكل «زعيم»، لتجسيد الشعب، فإنّ المؤسسات ميّالة لخيانة الشعب. كي ينوجد هذا التجسيد العضوي للشعب في حلّة زعيم، ينبغي الحدّ قدر الإمكان من التفلّت والتعدّد. فللجسد أعضاء، وللأعضاء تراتبية، لكنه قائم أساسا كجسد على استبعاد ما ليس منه. وهكذا، الشعبوية، بقدر انشدادها إلى إرادة الشعب ووحدته، بقدر حاجتها لرسم حدود فاصلة بين «الشعب» وبين «أعداء الشعب» ضمن «الشعب» نفسه. حقّق عبد الفتاح السيسي ذلك صيف العام 2013، فأقام بالتفويض الشعبي وبالفضّ الدموي حدود المفاصلة بين «الشعب» الذي ينبغي ألا يفكر بالتظاهر مجدّدا بعد تظاهره الأخير (التفويض)، وبين «اللاشعب» الذي يجب تجميعه في المعتقلات.
فتح عبد الفتاح إذا حسابا افتراضيا له في «عالم الشعبوية»، وباقترابه من النوع المحافظ منها، بدا وكأنه جزء من اليمين الشعبوي الصاعد عبر العالم. وما دام النظام في مصر يقوم على عكازين، هما ارتكازه إلى كتل من رجال الأعمال من فوق وقاعدة اجتماعية يحميها ومساندة له من تحت، بدا وكأنّ السيسي سيأخذ مكانه في انتفاخات الظاهرة الشعبوية في العالم. صحيح أنّه بخلاف فيكتور اوربان في المجر، أو نارندره مودي في الهند، لم يصل إلى الحكم بادئ ذي بدء بصناديق الاقتراع، بل بثلاثية القومة الشعبية ضد حكم الإخوان، والانقلاب العسكري على الرئاسة المنتخبة، والمجزرة ضدّ المعتصمين، إلا أنّه بدا يستند إلى حيوية أكثر جماهيرية وصخبا من «الشعبويين» الآخرين.
تماهى السيسي مع مزعم تجسيد الزعيم للشعب ومع رسم حدود فاصلة بين الشعب ومن يجري استبعادهم منه كمقولة. لكنه لم يستكمل كل ملامح الشعبوية الأخرى. فالشعبوية تحتاج إلى اصطناع نوع من علاقة صوفية مستمرة بين الزعيم الشعبوي و«الشعب»، أما عبد الفتاح ففضّل التركيز على علاقة صوفية هاذية بينه وبين … الغيب.
بدا محتارا بين «تجسيد الشعب» و«تجسيد الغيب». من جهة، «أنا واحد مثلكم»، ومن جهة أخرى، هو واحد في «الماوراء»، محجوب.
ظهر باكرا أن السيسي غير قادر على «استكمال شعبويته». فالشعبوية تتطوّر في الديمقراطيات الآخذة في التشكّل أو اليانعة، وعلى حسابها. لكن الشعبوية لا تتطوّر على قاعدة «وأد» إمكان الديمقراطية نفسه، والخوف من الجماهير وصناديق الاقتراع في الوقت نفسه.
تدرك الشعبوية بشكل أو بآخر أن الديمقراطية الحديثة، التمثيلية، تقوم على معادلة صعبة بين عامة الشعب، «الديموس»، و«دولة القانون» التي لا يمكن أن تكون مجرّد انعكاس لهذا الديموس، بل لها حيثية قائمة بذاتها بالاستقلال النسبي عنه. تنهض على أساس زعم إعادة الاعتبار لـ«الديموس» هذا. لكن ما جرى في حالة السيسي، هو التحلل من أشباح «الديموس» و«القراطوس» معا، وبالقدر نفسه.
بالضدّ من «الديموس» ومن «سلطة القانون»، أقام السيسي «شعبويته غير الشعبية» على مزدوجة «المسكنة والبطش». «معاداة الإمبريالية» الممارسة كاريكاتيريا ضد باراك أوباما تحوّلت إلى منتهى المسكنة والتزلّف تجاه دونالد ترامب. و«المسكنة» التي تجلت مع السعودية، في ملف تيران وصنافير، ووعود «مسافة السكة»، تجلت أيضا، في عدم إرسال قوات إلى اليمن، بخلاف المأمول به سعوديا. تبعية لأننا «مساكين»، وعدم تلبية شروط التبعية، أيضا لأننا «مساكين». مسكنة عبثية.
لكنّ المسكنة والبطش لا تنتج شعبوية فعلية. الشعبوية «غير الشعبية» هي شعبوية فارغة. الشعبوية المفرغة من أي محاولة ارتباط بمشروعية تحررية وطنية، أو تحديثية اجتماعية (من جهة اليسار)، أو بأي مشروعية «سياسة هوية» قومية إثنية أو دينية (من جهة اليمين).
مع هذا، كان للسيسي شعبية في وقت سابق. شعبية لأن قسما من الناس ارتجت فيه شعبوية تحرر وطني وحماية اجتماعية، وقسما آخر أمل بشعبوية يمين محافظ قيميا، نيوليبرالي اقتصاديا، يتوجّها السيسي. بمعنى آخر، هناك من انتظر «تشافيز مصري»، وهناك من انتظر «نارندره مودي»، في حين أنه مهما قيل في تقييم تشافيز ومودي، على المسافة الشاسعة بينهما، والقسمات الجامعة لهما كشعبويين، فإنّ ثنائية «المسكنة والبطش» السيسية لها اعتبار مختلف تماما.
خسر السيسي شعبيته بنتيجة اتضاح مدى ابتعاده عن «الشعبويات الممتلئة»، وظهورها كـ«شعبوية لا شعبية»، شعبوية فارغة. اقتربت شعبيته من الحضيض، وفي الفترة الأخيرة أخذت فكرة إزاحته تكتسب صدى شعبيا، في الصدور وهمس «ما بين الجدران»، قبل أن تؤدي ظاهرة «المقاول محمد علي» دورا في تصعيدها.
لا يعني ذلك أن المعطيات الحالية تفيد أن ثمّة «كرة ثلج» لا رادّ لها بوجه السيسي. لكن من الصعب تماما للسيسي استرجاع معدلات سابقة من الشعبية كانت له قبل بضع سنوات. ومن الصعب له أن يقدم على أي تراجع «إصلاحي» ملحوظ ومثمر على أي صعيد. ليس هناك معطيات ملموسة تفيد بما يعاكس التضامن العسكري حوله، لكن ما خسره النظام المصري مذ اضطرته ثورة 2011 للتضحية بحزب الدولة، الحزب الوطني الديمقراطي، سليل الاتحاد الاشتراكي، ليس بقليل.
هذه التضحية تجعل العسكريتاريا عارية، وتعطي الإمكانية لظهور «شعبوية ضدها»، هذه المرة ليس على أساس المناقضة بين «الشعب» و«النخب»، إنما بين «الشعب» و«العسكر»، العسكر مأخوذين كطبقة، طبقة العسكر، أي بشكل أساسي طبقة كبار الضباط. يتعايش هذا المنحى حتى الآن مع المنحى المناقض له، الذي يتحاشى التناقض مع العسكر ككل، ويؤثر بدلا من ذلك حصر المشكلة مع «المفسدين» منهم، وهذا أيضا جزء من «عدّة شغل» المقاول محمد علي. عدّة محمد علي الأخرى هي في طلاقته الشبابية، وقدراته كمشروع «سكس سيمبول» يوظف بشكل حذق «ماتشيته» لإظهار الطاغية في صورة الذكورة المأزومة، المعطّلة من فرط جمعها بين البطش والمسكنة في مركّب واحد، من فرط لزوجتها وغياب العصب.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية