قضايا وآراء

المسلسل الفلسطيني من "اللا" إلى "النعم".. و"اللا" حين تفقد قيمتها

خلدون محمد
1300x600
1300x600

قبل حرب 1967 كان موضوع "الاعتراف بإسرائيل" أو التسوية والحلول السلمية معها موضوعا محذوفا ومسقطا وغير ذي صلة بالنقاش أو التداول السياسي الرسمي، فضلا عن الشعبي، والعربي والفلسطيني. (وإن أثبتت الوثائق السرية لاحقا وجود محاولات ظلت (قبل 1967) واهية وغير واقعية).

هناك من يعتبر أن ميلاد "إسرائيل" الحقيقي لم يكن عام 1948 وإنما عام 1967 بعدما حققته من سحق وقهر للإرادة العربية، وبالتالي وقوفها في موضع المتمكن من انتزاع اعتراف المحيط العربي بها وفرض شروطها في ذلك.


وقد كان إجمال النقاش في الأمم المتحدة الذي أفضى إلى صياغة قرار مجلس الأمن الدولي الشهير (242) في تشرين الثاني 1967، يؤشر على الاستنتاج السياسي الأهم بالنسبة للكيان الصهيوني، وهو التعامل معه كحقيقة سياسية غير قابلة للطعن والاستئناف، وأن على جميع الأطراف أن تبني سياساتها بناء على هذه الحقيقة والتعايش معها، لذا كان من أهم عناصر هذا القرار "حق دول المنطقة أن تعيش في حدود آمنة ومعترف بها"، وكان المقصود الوحيد بذلك طبعا هو الكيان الصهيوني. وبهذا أصبح القرار (242) عنوانا للاعتراف "بإسرائيل".


ورغم أنه لم يتطرق إلى حقوق الفلسطينيين الوطنية التي صاغوها لاحقا كالعودة وتقرير المصير وإقامة الدولة، فقد كان يطلب منهم منذ صدوره، الاعتراف كشرط لقبول محاورتهم وإدخالهم إلى نادي الدول.

كان أول رد فعل عربي مرتجل وبحسب بعض عقلاء الأنظمة العربية" على حرب 1967 هو إشهار "اللاءات الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات" في قمة الخرطوم، وقيل إن أحمد الشقيري – أول رئيس لمنظمة التحرير- هو من وقف بخطابيته المعهودة وراء جر دول الجامعة العربية إلى ذلك الموقف "المتسرع" والمحرج لموقف جمال عبد الناصر الذي شيّد سياسة "إزالة آثار العدوان"، مما دعا عبد الناصر إلى النفور من الشقيري والتخلي عنه والبحث عن بديل فلسطيني آخر. (سيكون بعد عام من ذلك هو زعيم حركة فتح ياسر عرفات).


لم تتأخر الدول العربية المعنية بالاعتراف بالقرار (242) باستثناء سوريا التي ستعترف به لاحقا بعد حرب 1973 (وهذا سلوك عربي متكرر، فدائما كانت مصر أول الدول في تقديم التنازلات السياسية، وسوريا آخرها، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم. حدث ذلك في الهدن الحربية عام 1949، ثم في الاعتراف بقرار 242، ثم في عقد اتفاقات سلام مع العدو..) وقيل ان عبد الناصر نصح عرفات في وقت مبكر بالقول: "لماذا لا تقبلون إقامة دويلة في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، أليس هذا أفضل لكم من الوضع الحالي؟!".


كان المقصود بلاءات الخرطوم هو (الـ"لا" الكبيرة) التي تعني الرفض الجذري المطلق السياسي والقانوني والوجودي لحادثة ميلاد الكيان الصهيوني، وهي "اللا" التي ظل الفلسطينيون "أصحاب الحق الأصلي – حسب القانون الدولي –" يشهرونها رسميا حتى 15/11/1988 عندما أعلنت صريحة واضحة دون لجلجة وأضيف إليها طقوس من الإذلال "وحط الواطي كما نقولها بالمحكية".

هناك إشارات عديدة على بداية تسلل الـ"نعم" الفلسطينية وإن كانت هذه الإشارات والأدلة تزايدت وتكاثرت بعد ذلك ليتم ترجمتها بقرارات المجلس الوطني الثاني عشر، الذي عقد في صيف 1974، وأصدر ما يسمى "البرنامج المرحلي" أو "برنامج النقاط العشر".

 

ولم تثبت سيل التحليلات التي كنا نقولها في السبعينيات والثمانينيات جدارتها فقط، من أن المقصود بذلك البرنامج ما كان إلا توفير سلم نزول للاعتراف السياسي والقانوني بالعدو، وهو ما كان يتطلب إطلاق الـ"نعم" الفلسطينية الواضحة، بل إن سيل الوثائق وكتب المذكرات لاحقا أمطرتنا بهذه الحقيقة. فقد أوضح جورج حبش (كما نقل عنه الصحفي اللبناني غسان شربل في كتابه "أسرار الصندوق الأسود") أنه وقع هو وجبهته وكثيرون آخرون ضحية تضليل كان مارسه ياسر عرفات على الجميع.


يقول حبش: "فقد وافقنا نحن على النقاط العشر، وأعتقد أن شخصا واحدا اعترض عليها في المجلس هو الرفيق ناجي علوش.. وافقنا، لكنا اكتشفنا بعد ذلك بوقت قصير أن أبا عمار يريد أن يجعل منها أرضية لتحريك نهجه السياسي باتجاه آخر مختلف تماما عنها. وتكشف لنا هذا الاتجاه عندما علمنا بوجود مفاوضات سرية بين أبو عمار وهنري كيسنجر عبر وسيط ثالث، لذلك أعلنا رفضنا النقاط العشر وخرجنا من اللجنة التنفيذية بعد شهرين من المجلس الوطني الذي أقرت فيه النقاط". ويضيف: "فنحن اكتشفنا بعد طرح النقاط العشر أن هذه النقاط ليست إلا مقدمة لجر م.ت.ف إلى مجاهل سياسية خطرة، لذلك انسحبنا من اللجنة التنفيذية بعد شهرين من إقرار النقاط العشر، وبقينا على هذا الوضع حتى 1979.. وعلى إثر مفاوضات طويلة توصلت الفصائل مجتمعة الى ما سمي في حينه بـ"وثيقة طرابلس". 


هذه الوثيقة التي عدلت النقاط السياسية الواردة في النقاط العشر وذلك من خلال الربط بين المرحلي والاستراتيجي، كذلك جرى التأكيد على عدم الاعتراف بإسرائيل..".

كان معين الطاهر (قائد الكتيبة الطلابية ثم قائد كتيبة الجرمق التابعة لحركة فتح في جنوب لبنان حتى 1982) قد كشف في مذكراته "تبغ وزيتون" أن التحول الجوهري في تفكير عرفات السياسي قد لمسه بوضوح لأول مرة في لقاء "معسكر مصياف" في سوريا كانون أول/ديسمبر 1973، عندما تفاجأ مقاتلو فتح بكلام عرفات الجديد حينها حول تغيير أهداف النضال الوطني من تحرير فلسطين، إلى مجرد إقامة دويلة على أي جزء من فلسطين حتى ولو كان أريحا، ويومها ثار جدل كبير، وافترق الناس مذاهب، لكن المؤكد كما ذكر الطاهر، أن سعي عرفات الحثيث كان من أجل حجز مقعد في قطار التسوية.

 

كما أورد إدوارد سعيد (المعروف بنقدياته المنهجية الصارمة في الأدب كما في السياسة والفكر) في أحد مقالاته النقدية لأوسلو، وللسلوك السياسي لياسر عرفات، عن جوانب من تذبذب الـ"نعم" الفلسطينية عندما اتهم عرفات بالجبن ردا على ما كان يسوّقه ويقوله عرفات عن "سلام الشجعان".


وفي التفسير قال سعيد:" بأنه كان تم استدعاؤه هو والأستاذ إبراهيم أبو لغد، لمقابلة وزير خارجية أميركا سايروس فانس عام 1977، ليس بصفتهما مواطنين أمريكيين، أو أكاديميين مرموقين، بل بوصفهما عضوين في المجلس الوطني الفلسطيني وطلب منهما إرسال رسالة إلى السيد ياسر عرفات مفادها: أن اعترف "بأي صيغة مريحة" بالقرارين (242) و(338) حتى تتمكن الإدارة الأمريكية من تأمين إقامة دولة فلسطينية في مناطق 1967. ورغم وصول عرفات - حسب إدوارد سعيد- الى قناعة بضرورة الاعتراف بهذين القرارين كمقدمة لدخول نادي التسوية في حينه، غير أنه جبن، لأنه كان يعلم ماذا يمكن أن ينتظره في قلعة الفدائيين في بيروت آنذاك؟!


الغريب أن هذا الطلب قدم للقيادة الفلسطينية من خلال قنوات عددية، كان من ضمنها الملك فهد وأنور السادات، حتى أن الصحفي الفلسطيني جهاد الخازن الذي كان شابا في أواخر السبعينيات، قال (في برنامج "يحدث في مصر" على قناة mbc قبل سنوات) أن رئيس المخابرات السعودي كمال أدهم – في حينه- بعثه إلى ياسر عرفات في بيروت (4-5) مرات لنفس الغرض.


كما أورد ممدوح نوفل (أحد مستشاري عرفات، والقائد العسكري السابق للجبهة الديموقراطية قبل التحاقه بعرفات) في كتابه "قصة اتفاق أوسلو.. طبخة أوسلو" ضمن الوثائق الملحقة بالكتاب، الوثيقة رقم (11) وهي منسوبة لـ"لجنة متابعة المفاوضات" التي شكلتها المنظمة لمتابعة الوفد المفاوض في مدريد فواشنطن، وكان يرأسها ياسر عرفات، كما كان ممدوح نوفل أحد أعضائها. والوثيقة عبارة عن مذكرة طويلة، طلب من الوفد المفاوض أن يناقشها مع الراعي الأميركي (إدوارد جيرجيان: الذي كان قائما بأعمال وزير الخارجية الأميركي في أواخر1992).


وتذكر المذكرة الأمريكان بقائمة من الأفعال التي أقدم عليها الفلسطينيون، لكنها تقول بحسرة بأن جميع الجهود والمبادرات المبذولة لتبيان حسن نية القيادة الفلسطينية وإثبات رغبتها بالسلام "ذهبت جميعها أدراج الرياح وانتهت الواجبات التي كنا نقوم بها أو نؤديها لهم، الأمر الذي جعل ثقتنا بالإدارة الأمريكية تكاد تكون معدومة".


وهنا تعدد الوثيقة تلك الجهود لنكتشف أن المقصود بالتحولات السياسية الفلسطينية لم تكن نابعة من احتياج فلسطيني وتطور يعكس الوعي الوطني الذي تم تسويقه على أنه "واقعية ثورية"، إنما كان نوعا من القرابين المطلوب تقديمها كمقدمة مطلوب فعلها للتعاطي السياسي مع المنظمة، فتذكر المذكرة: "ومن اجل التذكير فقط، ومن أجل المراجعة نكرر هنا بعض الوقائع على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:


-1973 : لقاء خالد الحسن مع الجنرال والترز في المغرب. ولم تف أميركا بما تم الاتفاق عليه.


-1974: موافقة مجلسنا الوطني على النقاط العشر التي عرضها علينا السادات ليتماشى مع مؤتمر جنيف (هكذا إذن هي حكاية النقاط العشر!).


-1974: الموافقة على الوفد العربي المشترك في مؤتمر جنيف باشتراك منظمة التحرير الفلسطينية بمستوى منخفض بناء على اتفاق مع الرئيس السادات والإدارة الأمريكية (وهو ما جسدته صيغة المشاركة الفلسطينية لاحقا في مؤتمر مدريد).


-1977 : الموافقة على قرار 242 من المنظمة الذي سلم إلى السيد غروميكو، وصدر على إثره بيان فانس -غروميكو والذي تم التراجع عنه ببيان ديان-فانس بعد ثلاثة أيام في أكتوبر 1977. (وهذا أول اعتراف رسمي غير علني بالقرار الذي تأخر الاعتراف الرسمي العلني به حتى تشرين ثاني 1977).


وبسبب فشل محاولة عقد مؤتمر جنيف المأمول في سنوات 1974-1977 تباطأ الاندفاع الفلسطيني وبنت قيادة المنظمة من يومها سياساتها على "اللعم" وهو الموقف المموه ما بين الرفض والقبول الذي حكمته ظروف تلك المرحلة.


وباعتقادنا ظل الموقف "اللعمي" أقرب إلى "اللا" حتى 1982، ولكن بعد الخروج من بيروت غدا مسار "النعم" أكثر وضوحا حتى تمت ترجمته بقرارات المجلس الوطني التاسع عشر في الجزائر في 15//11/1988، وقيل يومها بأن تلك القرارات "الواقعية" بما فيها الاعتراف بإسرائيل، عكست مطالب وأهداف الانتفاضة الأولى؟!


وتظل شهادة محمود عباس في كتابه "طريق أوسلو" الأبلغ والأهم في هذا المجال (وجاءت مصدقة وصاقله للرواية التي سجلها زميله صلاح خلف في كتابه "فلسطيني بلا هوية")، حيث قال: "في عام 1977 اقترح سايروس فانس على المصريين والسعوديين أن تتعامل منظمة التحرير مع القرار 242 تعاملا إيجابيا على أن تضع التحفظات التي تريد، وأعرب عن استعداده في هذه الحالة أن يجعل الولايات المتحدة تفتح حورا معها" ويضيف عباس:" لقد جاء في قرارات المجلس الوطني للدورة (12) ما يلي: "نحن نرفض القرار 242 لأنه يتعامل مع قصية فلسطين على أنها قضية لاجئين"، وكان المطلوب أن تقول: "لو لم يكن قرار 242 قد تعامل مع قضية فلسطين على أنها قضية لاجئين، وتعامل معها على أنها قضية شعب له حقوقه المشروعة لقبلناه".


وهذه صيغة اقترحها إسماعيل فهمي (وزير خارجية مصر آنذاك) وسعود الفيصل..." ويخبرنا عباس بأنه كان " في كل زيارة يقوم بها وفد رسمي فلسطيني إلى موسكو يتحدث أندريه غروميكو (وزير خارجية الاتحاد السوفييتي) إلى هذا الوفد قائلا: لا حل أمامكم ما لم تعترفوا بالقرارين 242 و338. إن هذه الأوراق شيك ثمين بأيديكم عليكم أن تستعملوه في الوقت المناسب، ويجب أن لا تتأخروا لأنه سيأتي وقت ويفقد فيه قيمته. أرجوكم أن تعطونا هذا الشيك لنتحدث به مع الأمريكان والأوروبيين والإسرائيليين لعلنا نجد لكم حل".


ويستطرد عباس متحسرا:" كان الجواب دائما: لا يمكن القبول بالقرار". ومن عاد يذكر هذا القرار (الذي كانت تذكره نشرات الأخبار عشرات المرات في اليوم الواحد) بعد أوسلو أصلا.


الحقيقة أن مسار التحول من "اللا" إلى "النعم" مر بعمليات "ترويض" وخصخصة مريرة، استخدمت فيها "العصا والجزرة". 


وكان تأثير العصا بالغا على القيادة الفلسطينية خاصة بعد الخروج من بيروت وحروب لبنان الأهلية، لدرجة أنه عندما جاء دور تقيم "النعم" أو بالمحكية الفلسطينية "حط الواطي" قدمت نعم مغمسة بالكثير من إراقة ماء الوجه والإمعان في الإذلال حتى يكون الثمن وهيدا، وزهيدا جدا كما هو أوسلو.


وللحديث صلة.

0
التعليقات (0)