هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كثيرا ما يتردد سؤال على السنة وأقلام بعض السياسيين والمثقفين التونسيين والمغاربة على وجه الخصوص حول ما يعرف بالمشروع المجتمعي، فقلّ وندر أن جرى نقاش بين السياسيين والمثقفين المغاربة من دون أن يثار سؤال كبير: ما هو مشروعك المجتمعي أو ما هي رؤيتك المجتمعية؟
والمقصود بالمشروع المجتمعي هنا الرؤية الإيديولوجية الكبرى التي يعبر عنها هذا الشخص أو ذاك.
قبل أيام قليلة، راجت كثيرا كلمة المشروع المجتمعي على صفحات التواصل الاجتماعي ودار حولها جدل احتدم في أجواء حملة الانتخابات البلدية المزمع عقدها في تونس نهاية هذا الأسبوع.
طرح احد الصحفيين التونسيين في إحدى الإذاعات سؤال "المشروع المجتمعي" هذا على إحدى المرشحات بقائمة حركة النهضة (سليمة بن سلطان) عن مدينة تونس الشمالية.
أثار السؤال نوعا من الحيرة لدى المرشحة المستقلة التي تترأس قائمة النهضة، وليس لها سابق عهد بلعبة الاصطفاف السياسي والإيديولوجي.. فأجابت عن هذا السؤال الملتبس في ذهنها بكل تلقائية، إنها اختارت النهضة منذ سنوات لأنها قريبة إلى قلبها، وأن مشروعها المجتمعي، وبكل بساطة هو تنمية مدينتها والارتقاء بأوضاعها والتقريب بين المواطنين وخدمتهم.
و قد أثار ذلك نوعا من الاستنكار والاستغراب لدى المذيع التونسي بوبكر عكاشة، إذ كيف لها ان تترشح عن قائمة النهضة وهي لا تعرف شيئا عن مشروعها المجتمعي، ويقصد بذلك المشروع الإيديولوجي!
كان الصحفي يرغب في استدراج المرشحة المستقلة على قائمة حركة النهضة إلى المربع الإيديولوجي بزعم أنها تجهل هوية المشروع الفكري والسياسي لحركة النهضة الذي ينسبه إلى فصيل الإسلام السياسي الممتدة عروقه إلى إخطبوط الإخوان المسلمين المتشعب.
ما يستبطنه السؤال كان الرغبة الجامحة في إحياء الاصطفاف الإيديولوجي لثنائية علماني-إسلامي، أو إسلام سياسي مقابل حداثي، وهو الصراع الذي كانت ومازالت تتغذى منه قوى كثيرة على الجهتين من الإسلاميين والعلمانيين على السواء.
وهكذا ألفت المرشحة المسكينة التي اختارت حزب النهضة لتنخرط في إدارة الشأن العام من خلال الترشح للمجلس البلدي في جهتها نفسها مقحمة في غمرة صراع إيديولوجي لا ناقة لها فيه ولا جمل.
سليمة لم تخفي ميولها النهضوية رغم كونها مواطنة تونسية عادية وغير محجبة، شانها في ذلك شان الكثير من التونسيات اللواتي يملن لحركة النهضة من دون التزام إيديولوجي محدد.
نعم، لكل المجتمعات هويتها ووجهتها العامة، ولا توجد أمم من دون خيارات كبرى تخص أنماط حياتها ونظام القيم والثقافة العامة. ولكن المجتمعات ليست عجينة طيعة تشكلها الأهواء الأيديولوجية لهذه المجموعة أو تلك، سواء باسم الأسلمة أو العلمنة.
هوية المجتمعات تتشكل عبر صيرورة طويلة المدى إلى أن تستقر على صورة معينة تغدو معها موضع إجماع أو اتفاق عام يستقر في القلوب والعقول وينعكس في مسالك الحياة اليومية للأفراد والجماعات، وفي الأفراح والأتراح، في إطار ما يمكن تسميته بالثقافة العامة.
الخيارات المجتمعية ليست وليدة الحلم أو الوهم الإيديولوجي لبعض المجموعات العقائدية الصلبة. هي حركة تلقائية تنزع نحوها المجتمعات في ثباتها وحركتها في نفس الوقت.
وقد استقرت المجتمعات الإسلامية في المشرق والمغرب على أعراف محددة في العيش والعمل والزواج والممات وغيرها، إلى أن جاءت موجة التوسع الغربي، منذ بدايات القرن التاسع، عشر وجلبت معها صورا وأنماطا جديدة للسلوك والحياة في إطار ما يعرف اليوم بالحداثة التي فرضت نفسها على مختلف جهات العالم.
وهكذا بقدر ما ترسخ الإسلام في أعماق النفوس والنسيج المجتمعي العام في العالم الإسلامي الواسع، بقدر ما فرضت الحداثة نفسها من خلال ما جلبته من عادات عيش ولباس وتفكير.
من هنا يمكن القول أن هذه الديناميكية بين موروث الإسلام كديانة كبرى ومتنوعة وموروث -أو بالأحرى موروثات الحداثة- ستظل تفعل فعلها لسنوات، إن لم نقل لعقود طويلة من الزمن. ما سيحدد طبيعة المشروع المجتمعي في نهاية المطاف هو هذا التفاعل بين الإسلام والحداثة، بكل ديناميكيته وتوتراته وتناقضاته أحيانا.
فبقدر ما ثبت أن الإسلام حقيقة صلبة وقوية في المجتمعات الإسلامية بقدر ما تبين أن الحداثة تيار قوي وجارف، مثلما انتبه إلى ذلك المصلح التونسي خير الدين باشا في كتابه المعروف "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
المجموعات العلمانية الصلبة وخصوصا اليسارية منها مهووسة بالصراع الإسلامي العلماني، لذا يخيل إليها أن أحوال المجتمعات تخضع بصورة كاملة للهندسة الاجتماعية الفوقية، عبر فرض نمط من العلمنة الفوقية المتوهمة.
أما المجتمعات الإسلامية الصلبة على طريقة السلفيين بوجهيها العنيف والمسالم، فتتصور أنها قادرة على إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية على هواها النصي من خلال مجادلاتها الفقهية والكلامية.
التحدي الرئيس اليوم هو كيف نبتعد عن المربع الإيديولوجي، أو بالأخرى الصراع الإيديولوجي، الذي يأخذ عنوان صراع المشاريع المجتمعية، باتجاه المساحة العملية والبراغماتية التي تتعلق بالتنمية والاقتصاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، بدل استهلاك الجهود واستنزاف الطاقات في مقولات الأسلمة والعلمنة.
طبعا هذا لا يعني السقوط في حبائل نهاية الإيديولوجية التي روج لها بيريز لتبرير هيمنة إسرائيل على المنطقة، في محاولة لتأسيس الإيديولوجية الصهيونية عبر كذبة نهاية الإيديولوجية.
الحقيقة أن جواب المرشحة الشابة، على بساطته وتلقائيته، رغم ما أثاره من استهجان وازدراء لدى الصحفي التونسي، هو الجواب المناسب والمطلوب، بل هو ما تحتاجه فعلا الساحة التونسية والعربية على وجه العموم: أي الانتقال من الساحة الإيديولوجية إلى الساحة العملية التي تخص النهوض والتنمية والارتقاء بمجتمعاتنا، بدل استهلاك الجهود والطاقات في صراعات إيديولوجية حدية لا نهاية له.
الإيديولوجيات الكبرى لا تقدم الحلول، إن باسم الدين أو العلمانية، بل تقدمها المشاريع الكبرى، مشاريع نهوض وتقدم الأمم.
أكبر معضلة يعانيها العالم العربي هي غياب الرؤية المستقبلية والاستغراق في معارك إيديولوجية مدمرة، جوهرها صراع حول السلطة والنفوذ ولعبة تموقع تغلف بالايدولوجيا ومقولة صراع المشاريع المجتمعية.
التحدي أمامنا اليوم هو: كيف نخرج الإسلام من دائرة الجدل العقيم، باعتباره حالة مستقرة مسلّما بها في العالم الإسلامي؟ وكيف ننأى عن أوهام الإيديولوجيات الشمولية الكبرى، المتدثرة برداء الدين أو العلمانية؟
الأمم والمجتمعات تنهض وتتقدم بصراع المشاريع التنموية والرؤى المستقبلية الطموحة، لا بالمشاريع الإيديولوجية.
لذا، أصابت سليمة بجوابها التلقائي البسيط وأخطأ الصحفي بسؤاله المتوتر المشحون...