ثارت ضجة في إسرائيل في الأيام القليلة الماضية، في أعقاب صدور قرار عن المحكمة العليا، يلغي قانونا أقره الكنيست قبل عامين، يضمن استمرار إعفاء الشبان اليهود المتدينين المتزمتين، "الحريديم"، من تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية. كما يلزم القرار بسن قانون يفرض الخدمة على "الحريديم". ومن شأن هذا أن يُدخل الحكومة إلى أزمة. إلا أن الأزمة الأكبر، التي باتت قنبلة موقوتة في وجه المشروع الصهيوني، هي التنامي السريع في أعداد "الحريديم"، الذين سيصبحون بعد سنوات، القوة المهيمنة على الساحة، وهذا السيناريو المستقبلي الذي يُرعب الصهاينة.
ومجتمع الحريديم، هو مجتمع ديني أصولي متزمت إلى أقصى الحدود، يرفض الصهيونية ويعتبرها حركة كافرة، لأن الحريديم يتمسكون بما جاء في التوراة، بأن من يقيم "مملكة إسرائيل"، هو المسيح حينما يأتي إلى العالم لأول مرة. ولكن غالبية الحريديم الإسرائيليين، بعكس الحريديم في العالم، قررت التماشي مع الكيان الإسرائيلي بوصفه كيانا عابرا. وفي المقابل فإن الصهاينة غضّوا الطرف عن طبيعة مجتمع الحريديم، كونهم شكلوا قبل 70 سنة، نسبة هامشية جدا.
إلا أنه مع السنين، بات الصهاينة يشعرون بالتكاثر المتسارع للحريديم، فلديهم معدلات ولادة عالية جدا، 7 ولادات للأم، ونسبة تكاثر طبيعي 3,8 %، هي النسبة الثالثة في العالم، مقابل نسبة تكاثر تقل عن 1,4 % لدى العلمانيين اليهود. وتقول دراسات، إن الحريديم يشكلون اليوم حوالي 13 % من إجمالي السكان، و16 % من إجمالي اليهود الإسرائيليين. وأنه بعد نحو عقدين، سيشكلون نسبة 33 % من اليهود الإسرائيليين، يضاف إليهم أكثر من 27 % من المتدينين من التيار الديني الصهيوني. ما يعني أنه بعد نحو عقدين، ستكون الغالبية الساحقة من اليهود الإسرائيليين، من المتدينين، وهذا تهديد كبير للمجتمع العلماني.
أزمة إسرائيل الأشد، هي مع الحريديم، كونهم يعيشون في مجتمعات منغلقة على نفسها، وبحياة تقشفية شديدة، ورجالهم بغالبيتهم لا ينخرطون في سوق العمل، ويرفضون الانخراط في الخدمة العسكرية، من منطلقات دينية، ويبتعدون عن الجمهور العلماني، على الرغم من توجهات الحريديم اليمينية المتشددة.
تقول الدراسات والأبحاث الإسرائيلية المتعددة، إن الحريديم يشكلون منذ الآن عبئا اقتصاديا على الخزينة العامة، كونهم يتلقون مخصصات اجتماعية، مقابل بقائهم في المعاهد الدينية. وعبئا أشد على الاقتصاد العام، كونهم ليسوا منتجين، ولا مستهلكين بمفهوم الاستهلاك العصري، ما يقلل من القدرة الشرائية العامة، وهذا كله مجتمِعا، ينعكس سلبا على نسب النمو الاقتصادي.
ما يرعب الصهاينة أكثر، هو أن هؤلاء حينما يصبحون نسبة هائلة جدا، فإنهم سيحاصرون المجتمع العلماني، لذا فإن الحُكم الصهيوني يقيم مستوطنات خاصة بالحريديم، منها 9 مستوطنات في الضفة المحتلة، خاصة في محيط مدينة القدس، كي يكونوا قريبين من المدينة.
كثير من الخبراء يدقون "نواقيس الخطر"، أمام الحركة الصهيونية والساسة الإسرائيليين، إلا أن أحدا لا يقبل بالدخول في صدام مع الحريديم. فحكومة نتنياهو السابقة، أبقت كتلتي الحريديم البرلمانيتين، خارج الائتلاف، وسنت قوانين وأنظمة تقلص ميزانيات الحريديم، وتفرض الخدمة العسكرية عليهم، ولكن سرعان ما سقطت الحكومة، ليشكل نتنياهو حكومته الحالية بعد انتخابات 2015، مرتكزا أساسا على كتلتي الحريديم، اللتين باتتا "صمام الأمان"، لكل حكومة يتم تشكيلها.
ما تفعله الحكومات الإسرائيلية منذ سنين، هو دحرجة الأزمة، دحرجة كتلة النار، في سبيل تأجيل الأزمة؛ متوهمين بنشوء ظروف تمنع الوصول إلى ما تستنتجه سلسلة أبحاث، بأن ارتفاع نسبة المتدينين ليصبحوا أغلبية السكان، وبنسبة أكير بين اليهود، سيكون عاملا ضاغطا على الجمهور العلماني اليهودي، الركن الأساس للاقتصاد وللمشروع الصهيوني، ما سيدفعهم إلى الهجرة، كما دلّ على هذا بحث أساسي في جامعة حيفا، صدر في نهاية العام 2010، وأكدت استنتاجاته سلسلة أبحاث أخرى لاحقا.
في الأيام القليلة المقبلة، ستصدر إحصائيات إسرائيلية بمناسبة رأس السنة العبرية، وسنرى أن نسبة فلسطينيي 48 شبه مجمّدة منذ سنوات، وهي تلامس 18 %، بفعل التكاثر بين اليهود، إلا أن هذا التكاثر وإن كان يلجم تكاثر العرب، إلا أنه تكاثر سيكون ضربة مرتدة على الصهاينة ومشروعهم، والأزمة قادمة لا محالة. والقنبلة الموقوتة المسماة "حريديم"، ستنفجر في وجه المشروع الصهيوني ليغير صورته كليا.