كيم إيل أون، زعيم كوريا الشمالية، اسم له حضور دولي، ملأ الدنيا وحرّك بوصلة الاهتمام الممزوج بالحذر والقراءات المختلفة.
شابٌ مكتنز الجسم. الابتسامة جزء من وجهه، والتصفيق تعبيره الذي لا يتوقف. يتنقل فرحا بين رؤوس ترسانته الصاروخية. آخر الزعماء الذين يتحدثون لغة السلاح، لا يخاطب الجماهير التي تعبده بالخطابات النارية التعبوية، بل بقوة مسلحة وحوله جنرالاته الشيوخ.
الشاب الذي أمضى فترة من حياته في سويسرا للدراسة باسم آخر وسط شباب ميسورين، ببلاد تدين بالسلام والتعايش بين قوميات متعددة ومختلفة. عُرف عنه حبّه لحياة الشباب والمرح والانفتاح على من حوله. لم يحقق تقدما على المستوى العلمي. بعد وفاة والده عاد إلى كوريا الشمالية لينصب زعيما أوحد مقدسا مثلما كان والده وجده.
السؤال: كيف استطاع شابٌ غض أن يفرض سلطته المطلقة على قوة عسكرية وحزبية تمتد جذورها في تربة البلاد لعشرات السنين؟ وأن يصفي كل من يشك في ولائه، وإن كان من أقرب الناس إليه ومن مكونات تروس السلطة في البلاد.
لقد ورث الزعيم الشاب «دولة آلة» صُنعت في زمن خاص. جدّه كيم إيل سونغ هو المصنع والصانع. وُلد في بداية الغزو الياباني لكوريا، وتعلم اللغة اليابانية قبل أن يتعلم الكورية. التحق بالحزب الشيوعي في الصين وانضم إلى العمل الفدائي ضد اليابان. عاد سرا إلى كوريا مع القوات السوفياتية، ثم أصبح أول رئيس لوزراء كوريا الشمالية. انقسمت البلاد إثر حرب بين القوتين العظميين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. القوة الأجنبية هي التي صنعت ماضي كوريا وحاضرها، وكان الجد المؤسس وسط ذاك الخضم الآيديولوجي والعسكري الدموي. اليابان هي الكائن الذي يسكن في رأس كل السلالة الحاكمة في كوريا الشمالية. هي العدو الناطق وإن بقي صامتا. يصبُّ الإعلام اليومي الكوري الشمالي اسمها على نار التعبئة الوطنية كي لا تنطفئ أبدا.
كوريا الجنوبية حيث الوجود العسكري والمالي الأمريكي، الهاجس الذي لا يفارق أنفاس الشمال. تجربة فيتنام رسمت خريطة التفكير السياسي للجد المؤسس. تحارب الشمال والجنوب بسلاح الآيديولوجيا والتدخل الأجنبي. الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي كانا هما الإصبع الذي حرك الزناد في أيدي الإخوة، وكانت فيتنام تحرك يد الزعيم وهو يصنع آلته. فكّر أن يؤسس الفيتكونغ الكوري، ليتحرك نحو الجنوب لفرض الوحدة، لكن الاتحاد السوفياتي لم يبارك ذلك. تجربة فيتنام بقيت الحلم والهاجس في عقل الزعيم المؤسس كيم إيل سونغ.
نجح كيم إيل سونغ في صناعة دولته المشحونة بالتاريخ الشخصي والتجربة المكثفة وتربص العدو القريب والبعيد. حلقات متعددة من دوائر القوة، الجيش والحزب والأجهزة الأمنية والمركزية المتحكمة في الثروة، وفي كل تلك الحلقات تتحرك يد العنف المرعب، الرعب هو الشهيق والزفير الذي تتنفس به آلة الدولة.
كل إنسان وليد تجربته، زعيم كوريا ولد من رحم مخاض دولي وإقليمي، كان العنف منذ البداية وقود حركته. التدخلات الأجنبية والصراع الداخلي الآيديولوجي والعسكري والثقل التاريخي شكلت شخصيته التي صنع بها دولته، فكانت نسخة منه.
يعتقد أن الجميع يتآمرون عليه، وليس له إلا أن يكون المتآمر الأقوى والأعنف.
إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءتْ ظنونُه
وصدَّق ما يعتادُه من توهُّمِ
قول المتنبي هذا عابر للزمان والمحيطات، لكنها عبوة حكمة خالدة لا تحمل متفجرات. تقنية الآلة الدولة، ارتكزت تروسها على محور الزعيم. أعدّ سونغ ابنه إيل للزعامة، تدرّج في المراكز العسكرية والسياسية متسلحا بقوة الشك والعنف، رفع شعار «العسكرية أولا»، وواصل ما بدأه أبوه بتطوير الأسلحة الاستراتيجية وفي مقدمتها الصواريخ طويلة المدى. لم تفلح الاتصالات والمفاوضات التي أجرتها معه الدول الغربية في إقناعه بالتخلي عن برامج صواريخه، مقابل تعاون اقتصادي وانفراج في العلاقات، وأصر على تنفيد شعار «العسكرية أولا». كان الثمن باهظا بالنسبة للشعب الكوري الشمالي، فقد تآكل الاقتصاد، وأحكمت حلقة الحصار وضربت المجاعة آلاف المواطنين.
بعد رحيل إيل تولى الحكم الابن - أون - الذي رفع من سقف العنف، وسخر كل شيء في البلاد لتطوير الصواريخ والسلاح الذري. ولكل زعيم شعاره. قال أبوه: «العسكرية أولا»، وقال أون: يدٌ تضرب، ويدٌ تصنع الصواريخ والقنابل. قالها ببرنامجه العملي.
لقد أعدم أكثر من ثمانين ضابطا ووزيرا، منهم شخصيات مقربة إليه بالنسب، وآخرون يحتلون أعلى المناصب في الدولة، لشبهات لا ترقى إلى الخيانة.
نجح الزعيم الشاب أن يحبس أنفاس الدنيا أخيرا، عندما أطلق صواريخ طويلة المدى، قادرة على حمل رؤوس نووية، ثم جعل الأنفاس تتقطع عندما فجر قنبلة هيدروجينية، مهددا باستعمالها ضد أعدائه. لقد دخلت المواجهة بين أمريكا وحلفائها وكوريا الشمالية مرحلة هزَّت العالم الذي بدأ يرى الهاوية كلها، وليس حافتها فقط لماذا؟ السلاح النووي وُجد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واستعملته أمريكا ضد اليابان، قتلت القنبلتان الذريتان في هيروشيما وناغازاكي مئات الآلاف من البشر، وما زالت تلك المذبحة تهز الضمير العالمي. اليوم هناك دول عدة تمتلك السلاح النووي، لكنها لم تثر الرعب الذي أثارته كوريا الشمالية. الخوف من السلاح النووي لا يفارق البشر بما فيها الدول التي تمتلكه. ولكن الخوف الأشد من اليد التي تمسك بذلك السلاح. الهند والباكستان بينهما ما صنع الزمان والحداد والتاريخ والدين والجغرافيا، كلتاهما تمتلك سلاحا نوويا، لكنه حقق توازن القوة التي خلقت بينهما سلاما واقعيا مع استمرار مشكلة كشمير.
الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، وقفا على حافة حرب حقيقية، امتلاكهما للسلاح النووي كان الطاقة التي فعَّلت العقل وصنعت السلام.
السؤال اليوم، إلى أين تسير أزمة الصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية الكورية الشمالية؟ أعتقد أنها رغم حساسيتها وخطورتها قابلة للتسوية والوصول إلى حل. الصين لها الدور الأساسي في كبح الاندفاع الكوري، فلا حياة لكوريا الشمالية من دون الصين، وخطر تحريك السلاح يطالها. روسيا أيضا، لها مصالحها وحساباتها الأمنية الوطنية، ملف أوكرانيا، والصواريخ التي حركها حلف الناتو إلى شرق أوروبا، وحساسية العلاقات مع أمريكا، كل ذلك يدخل في معادلات الحل. اليابان خط ملتهب منذ عقود بين الجغرافيا والتاريخ مع كوريا الشمالية.
سياسة «الاحتواء» طريق ممكن، لكنه طريق موصوف وغير مرصوف. لقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن بلاده لن تعترف بكوريا الشمالية دولة نووية. ذلك يفتح الأبواب لترتيب حزمة متكاملة للتعامل مع الأزمة الكورية، أولها تطمينات مضمونة لكوريا بعدم الاعتداء عليها، وسحب بعض الأسلحة الاستراتيجية الأمريكية من كوريا الجنوبية. وتقديم دعم مالي إلى بيونغ يانغ. واستيعابها في التجمعات الإقليمية وتطبيع شامل مع اليابان. الزعيم الشاب أون يرفع صوت التحدي والتهديد، لكن السياسة تستطيع أن تسحب من يده المسدس الذري.