لم تعد الحرب التي يخوضها الإرهاب، سواء كان تحت مظلة «داعش» أو أي «داعش» آخر يتلطى خلف هذا الاسم، حربا تخاض لأهداف محددة أو لتحقيق أغراض يزعمون أنها «سياسية» من وراء قتل الأبرياء.
أنها الآن حرب على حياة الناس العاديين، على فرحهم، على حقهم في النزهات، في مرافقة أطفالهم إلى الحدائق، على سفرهم في عطلهم السنوية إلى أماكن يختارونها للتمتع بما توفره المدن من وسائل ترفيه، من أماكن للثقافة، للموسيقى، للفنون والمعارض والمتاحف. باختصار، لكل ما هو جميل وحضاري وراق في هذه الدنيا. هذه هي الأهداف التي تخاض هذه الحرب ضدها بالشاحنات المعبأة حقدا على السعادة التي تسير على الأرصفة، وعلى الضحكة البريئة في عيون الأطفال، وعلى المدن التي تشع متعا وجمالا.
السياح يبحثون في دليل المدن عن عاصمة توفر لهم الراحة. والإرهابيون يبحثون في الدليل ذاته عن المدن التي تتميز بكثافة سياحية، ليتمكنوا من حصاد اكبر عدد من زوارها. هكذا صارت لندن وباريس ونيس وبرلين وستوكهولم والآن برشلونة، وبالتأكيد مدن أخرى غدا، أهدافا للهجمات. وليس من قبيل الصدفة أن هذه المدن التي يختارها الإرهابيون أهدافا لجرائمهم، كلها توفر لزوارها أماكن للتنزه وفسحات واسعة من الأرصفة يتعايش فيها الناس ويتشاطرون أشعة الشمس وفرح المقهى ونغمة الموسيقى من آلة تعزف من زاوية الرصيف. كل هذه «المحرمات»، وعلى الأخص منها تقارب الناس بعضهم من بعض من كل دين ولون وبلد، ومشاركتهم حب الحياة، هي ما يستدعي إذن قتلهم، قتل الفرح فوق وجوههم، والبسمة في عيون أطفالهم.
أسامة بن لادن اختار الطائرة، التي كانت من قبل وسيلة لنقل الركاب من مدينة إلى أخرى، وحوّلها قنبلة متفجرة في ناطحة سحاب أودت بحياة 3 آلاف شخص. قامت الأجهزة الأمنية بضبط حركة المطارات، التي بلغت حد إرغام المسافرين على خلع ملابسهم، لتحدّ من هذا الاستخدام الإرهابي للطائرة، والذي لم يفكر به الإخوان الأمريكيان اورفيل وويلبر رايت عندما قاما بالتحليق بأول طائرة في مطلع القرن العشرين.
لم تعد الطائرة إذن وسيلة إرهابية سهلة الاستعمال. لهذا حلّت محلها اليوم الشاحنات التي تجوب شوارع المدن وتقفز إلى الأرصفة حاصدة ما أمكنها من أبرياء، من دون أن يرفّ للسائق الإرهابي جفن، فيما الأطفال والنساء والعجزة يسقطون تحت عجلاته. وماذا يمكن أن تفعل أجهزة الأمن في وجه هذه الآلة الجهنمية التي صنعت لتشحن البضائع والمأكولات إلى الأسواق، ومن هنا الاسم الذي أعطي لها. لكنها الآن لم تعد شاحنة بل أصبحت «قاتلة»، ما سوف يستدعي ربما تغيير اسمها بعدما تغيرت وظيفتها!
أنها اسهل وسائل القتل. واذا كان محمد عطا ورفاقه الإرهابيون احتاجوا إلى دروس في قيادة الطائرة قبل التحليق في سماء نيويورك، واذا كان إرهابيون آخرون يحتاجون إلى دروس وتعليمات في صنع المتفجرات وارتداء الأحزمة الناسفة، فان الشاحنة لا تحتاج سوى إلى من يدفع بدل إيجارها، من دون أن يكون في حاجة حتى إلى إجازة لقيادتها، فهو ذاهب إلى حتفه، ولن يجد من يسأله عن تلك الإجازة على أي حال.
هذا الشاب الذي ما زال في مقتبل العمر، والذي هرب أهله من بؤس حياتهم في بلدانهم الأصلية ليوفروا له مستقبلا افضل في واحدة من مدن أوروبا، ما الذي يدفعه إلى الانتحار ثمنا لحقده على حياة الآخرين وسعادتهم؟ واي عملية غسل دماغ تقف وراء هذا التشويه المتعمد للدين وللعقيدة ولكل ما هو شعور إنساني؟ أحد المارة في شارع لاسرامبلاس في برشلونة روى كيف كان سائق الشاحنة القاتلة التي حصدت 13 بريئا على رصيف المدينة غارقا في الضحك، بينما كانت عجلاته تلتهم المارة في ذلك المساء المشمس! انه ذاهب سعيدا إلى نهايته بعدما اكمل مهمته المجرمة على هذه الأرض.