احتفلت حكومة نتنياهو بانقضاء نصف قرن على احتلال القدس الشرقية ومساحات واسعة من الأراضي.
بدا المشهد أشبه بحفل على ظهر سفينة قراصنة احتفاء بالاستحواذ على كنز. كل شيء أمكن سماعه في حفل كهذا سوى مصطلحات العدالة وحقوق الإنسان وحريات الشعوب، فضلا عن أن يتلفظ أحدهم بكلمة فلسطين أو الشعب الفلسطيني.
انتهت اللعبة وبلغ الشوط نهايته؛ فنظام الاحتلال أحكم خناقه على فلسطين وشعبها بعد سبعة عقود على النكبة، ونصف قرن على احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، والجولان السوري أيضا.
لا وقت لمزيد من الأوهام. فعلى الشعب الفلسطيني أن ينسى مشروع الدولتين، الذي سقط إلى غير رجعة حتى قبل أن يدخل ترامب البيت الأبيض.
وإن وقع الإعلان عن دولة فلسطينية ضمن الواقع القائم اليوم، فستكون هذه الدولة الوهمية أشبه بنقابة مساجين لها بساط أحمر مهترئ داخل أسوار عالية محاطة بأسلاك شائكة.
في لحظة معيّنة ستكون الدولة الفلسطينية وفق مواصفات الواقع حاجة إسرائيلية أساسا، وهذا للإعلان عن تصفية حقوق الشعب الفلسطيني إلى الأبد. ستكون هذه "الدولة" المزعومة مطلوبة لإتمام المسيرة الجنائزية لقضية فلسطين، وينبغي البحث عن رئيس عاجز على شاكلة السيد عباس ليلقي خطابا عن "النصر العظيم الذي تحقق لشعبنا أخيرا".
على الفلسطينيين أن ينسوا أوروبا أيضا، فهي لن تمنحهم سوى مزيد من بلاغات الإعراب عن القلق والاعترافات الجوفاء بدولة فلسطينية موجودة على الورق فقط. تعلم أوروبا جيدا حقيقة ما تقوم به الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو، لكنها ليست مستعدة للتصرّف أو لنزع أجهزة الدعم السخي عن دولة الجيش والأبارتهيد والمستوطنين.
طوال التسعينيات من القرن الماضي ظلّ الفلسطينيون يتطلّعون إلى دور أوروبي لإحداث توازن مقابل الانحياز الأمريكي للجانب الإسرائيلي. أما اليوم فلا أحد في فلسطين يعلِّق آمالا على أوروبا سوى بالحصول على فتات المساعدات التي تلتهم معظمها أجهزة الأمن التي تعجز عن حماية الفلسطينيين.
انتهى الدرس. وعلى الفلسطينيين أن يبحثوا الطريقة التي تتيح لهم الفكاك من مصيدة تم استدراجهم إليها؛ فواقع الحال أنّ السلطة الفلسطينية لا تملك قرارها ولا مواردها، وهي مرتهنة لاتفاقيات مجحفة تم التوقيع عليها في لحظة ضعف وإذعان بعد حرب الخليج 1991، تحت إغراء وعود حالمة باستقلال لم يتحقق.
يبدو المشهد مزريا بحقّ؛ فالسيد عباس يحكم رام الله وبعض المدن والقرى المبعثرة بصفة شكلية فقط، بيننا يصول جيش الاحتلال ويجول ويمدّ أذرعه الطويلة للإمساك بمن يريد. لا يستطيع "السيد الرئيس" أن يتحرك خطوة على الأرض إلا باستئذان نظام الاحتلال، فهو دون سيادة أو دولة، والوظيفة الجوهرية المطلوبة منه أساسا هي مهمة أمنية تقريبا، عبر ضمان أمن الاحتلال حسب ما يسمّى "التنسيق الأمني".
فعلى منوال الخبرات الاستعمارية مع حركات التحرر، تم توظيف فلسطينيين ضد فلسطينيين وزرع الانقسام في بيتهم الداخلي وإشعال النزاع بين الأشقاء، ولا يملك الإسرائيليون سوى فرك أيديهم بهجة بالاحتلال المريح الذي يقوم هذا "القطاع الخاص" الفلسطيني ببعض أعبائه التشغيلية.
بعد ربع قرن على جولات المصافحة والتصفيق والابتسامات العريضة، انتهت "عملية سلام الشرق الأوسط" إلى حصاد بائس للغاية؛ فالحصيلة هي أنّ الفلسطينيين لا يملكون أرضهم ولا مواردهم ولا خبزهم ولا ماءهم ولا أمنهم ولا معابرهم، بينما تصل حكومات الاحتلال الليل بالنهار في حمّى مصادرة الأراضي وتوسيع الاستيطان، وتغيير معالم القدس وتكبيل الفلسطينيين ووضعهم في معازل سكانية في الضفة الغربية، ومواصلة الحصار الخانق على قطاع غزة.
لا أفق لدولة فلسطينية وفق هذا الواقع، بينما يتفاقم المشهد مع تفكك العالم العربي، بما جعل الشعب الفلسطيني مكشوفا في مواجهة السطوة الإسرائيلية المدعومة أمريكيا. يهرول حكام عرب منبوذون شعبيا للتودّد إلى وكيل أمريكا في المنطقة، أي القاعدة الحربية الإسرائيلية الضخمة. يستقوي المتنازعون بالورقة الإسرائيلية لتعزيز فرصهم في خوض الصراعات الإقليمية، كما يتضح في النزاع
الخليجي الحالي.
لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك ما هو آت من المطبخ الدولي والإقليمي على حساب القضية الفلسطينية. يتسارع الحديث عن قرب إبرام "سلام إقليمي" و"مصالحة تاريخية" تجمع العالم العربي مع الجانب الإسرائيلي. إنها شعارات مضللة بمضامين بائسة للغاية، مقصود منها عقد تحالفات وشراكات تجمع أنظمة مترهلة ومستبدة مع نظام الاحتلال الإسرائيلي بما يتجاوز القضية الفلسطينية. إنها وصفة لمزيد من الحرائق في المنطقة، وإذكاء لليأس والتطرف الذي يزعم الجميع محاربته بلا هوادة.
بعد سبعين سنة من النكبة وخمسين سنة من احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وبالطبع القدس الشرقية، بات واضحا أنّ الدول العربية لم تكن طوال تلك الحقبة لاعبا استراتيجيا جادا، وقد استثمرت الحكومات الإسرائيلية هذا الوضع الإقليمي بمواصلة الإمساك بالأرض والهيمنة على الشعب الفلسطيني، مع تنصيب هيكل كرتوني يرفع علما فلسطينيا، ومنحه حق مدّ البساط الأحمر على مرأى من دبابة إسرائيلية.
لدى نظام الاحتلال معضلة جوهرية على أي حال، هي أنّ الشعب الفلسطيني ما زال باقيا، ولم يتنازل عن حقوقه ومطالبه، ولم يتم العثور على حيلة مناسبة لدفعه صوب كوكب آخر مخصص لمنبوذي الأرض.
*ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن "ميدل إيست مونيتور".
1
شارك
التعليقات (1)
حسين الشاوي
الأحد، 11-06-201704:35 ص
المقاومة خيار أمة و لا توجد قوة في الكون قادرة على قهر ارادة شعب يريد الحرية و الاستقلال لأن ارادته من ارادة الله تعالى