بورتريه

"جارة القمر".. ليست ملاكا لكن صوتها حكاية أخرى (بورتريه)

فيروز بورتريه
فيروز بورتريه
ثلاث دول عربية تدعي أنها مواطنتهم: الفلسطينيون يقولون إن أصلها من مدينة الناصرة شمال فلسطين، واللبنانيون يقولون إنها ولدت وعرفت واشتهرت في لبنان، والسوريون يؤكدون أنهم من منحوها الفرصة للنجومية.

هي قهوة العرب الصباحية، وبنت الجيران التي تلعب على الحيطان، جارة القمر، وطير الوروار.

كثيرون من العرب يبدأون صباحهم بسماع صوت "السيدة"، ولا يحلو لهم الذهاب إلى أعمالهم وقيادة سياراتهم إلا برفقة صوتها وأغنياتها الرومانسية التي تشبه الحلم، أو هي الحلم ذاته.

لم تكن ملكا لبلد بعينه، ولم ينجح أحد في دفعها إلى ارتداء جلبابه، وفشلت محاولات تسييسها أو تحويلها إلى بوق غنائي لطائفة أو لدين، ولم ينجح النظام السياسي العربي منذ أن ظهرت على الساحة الفنية العربية في إغرائها أو إغوائها لتمجيده عبر الغناء له، غنت فقط للأوطان وللإنسان وللمكان وليس للسلطان.

وعلى مدى عقود، اختلف اللبنانيون والعرب على كل شيء إلا صوت فيروز التي تحولت إلى أيقونة غنائية، إلى أن اتهمتها مجلة "شراع" بأنها "عدوة للناس وعاشقة المال والويسكي"، وأنها "متآمرة مع الأسد".

عشاقها لم يحتملوا ما قيل عنها وغضبوا وأرعدوا وأزبدوا، واعتبروا هجوم الكاتب حسن صبرا على "سفيرة لبنان" في عيدها الثمانين، "سقوطا أخلاقيا" ومحاولة "رخيصة" للنيل من الصورة الأسطورية التي رسمها الرحبانية خلال أكثر من 60 عاما.

وقال النشطاء إن "هذا التصرف محاولة يائسة وفاشلة لن تنال من فنانة يعشقها ويحترمها ويقدرها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج"، مشيرين إلى أن ذلك يعد "سقوط الأغبياء والحقراء"، على حد وصفهم، فيما وصل عدد "التغريدات" على "تويتر" إلى ستة ملايين تغريدة.

فيروز المولودة في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935، في منطقة زقاق البلاط  في بيروت، باسم نهاد رزق وديع حداد، لأب مسيحي سرياني كان يعمل في مطبعة صحيفة "لوريون" التي تصدر حتى يومنا هذا باللغة الفرنسية في بيروت..
 
والدتها لبنانية مسيحية مارونية تدعى ليزا البستاني، توفيت في اليوم ذاته الذي سجلت فيه فيروز أغنية "يا جارة الوادي" للموسيقار محمد عبد الوهاب.

كانت "فيروز" الطفلة الأولى لأسرة بسيطة كانت تسكن في زقاق البلاط في الحي القديم القريب من بيروت، وبعدها أنجبت الأسرة الفقيرة شقيقتها المغنية والممثلة هدى حداد.

وكان الجيران يتشاركون مع أمها ليزا البستاني أدوات المطبخ في ذلك البيت المؤلف من غرفة واحدة، أما الأب الهادئ الطباع ذو الخلق الرفيع فكان يكد ليوفر لأسرته حياة كريمة.

طموحها كان أن تصبح معلمة مدرسة، رغم أنها كانت تكره الرياضيات في المدرسة كثيرا، ولا تزال غير متمكنة من جدول الضرب حتى يومنا هذا.

كانت تحب الغناء منذ صغرها، إلا أن الأسرة لم تكن تستطيع شراء "راديو" لإشباع رغبتها في سماع طرب زمان، فكانت تجلس إلى شباك البيت لتسمع صوته السحري قادما من بعيد حاملا أصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأسمهان وليلى مراد.

وفي حفلة المدرسة التي أقيمت عام 1946، أعلن محمد فليفل، أحد الأخوين فليفل اللذين لحنا النشيد الوطني السوري، عن اكتشافه الجديد، ألا وهو صوت فيروز.

رفض الأب المحافظ فكرة فليفل بأن تغني ابنته أمام العامة، لكن الأخير نجح في إقناعه بعد أن أكد له أنها لن تغني سوى الأغاني الوطنية، فوافق الأب مشترطا أن يرافقها أخوها جوزيف في أثناء دراستها في المعهد الوطني للموسيقى، الذي كان يرأسه وديع صبرة مؤلف الموسيقى الوطنية اللبنانية، والذي رفض تقاضي أي مصروفات من كل التلاميذ الذين أتوا مع فليفل.

انضمت فيروز إلى فرقة الإذاعة الوطنية اللبنانية بعد دخولها المعهد بشهور قليلة، وألف لها حليم الرومي مدير الإذاعة اللبنانية أول أغانيها، غير أن انطلاقتها الحقيقية كانت عام 1952، عندما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وبدأت شهرتها في العالم العربي منذ ذلك الوقت.

كانت أغلب أغانيها آنذاك للأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين يشار إليهما دائما بالأخوين رحباني.
وفي 1955 تزوجت فيروز من عاصي الرحباني، وأنجبت منه: زياد (1956) وهو صحفي وكاتب وملحن ومغني، وهالي (1958) وهو مقعد، وليال (1960) وتوفيت عام 1988، وريما (1965) وهي كاتبة ومخرجة.

قدّم الأخوان رحباني معها المئات من الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، وذلك لتميزها بقصر المدة وقوة المعنى على عكس الأغاني العربية السائدة في ذلك الحين، التي كانت تمتاز بالطول، كما أنها كانت بسيطة التعبير وفي عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع.. وغنت الحب والأطفال، وللقدس لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأم، وقدم عدد كبير من هذه الأغاني ضمن مجموعة مسرحيات من تأليف وتلحين الأخوين رحباني، وصل عددها إلى خمس عشرة مسرحية تنوعت مواضيعها بين نقد الحاكم والشعب وتمجيد البطولة والحب بشتى أنواعه.

غنت لعديد من الشعراء والملحنين، كما أنها غنت أمام العديد من الملوك والرؤساء وفي أغلب المهرجانات الكبرى في العالم العربي، وأطلق عليها ألقاب عدة، منها "سفيرتنا إلى النجوم" الذي أطلقه عليها الشاعر سعيد عقل للدلالة على رقي صوتها وتميزه.

بعد وفاة زوجها عاصي عام 1986، خاضت تجارب عديدة مع مجموعة ملحنين ومؤلفين من أبرزهم فيلمون وهبة وزكي ناصيف، لكنها عملت بشكل رئيس مع ابنها زياد الذي قدم لها مجموعة كبيرة من الأغاني أبرزت موهبته وقدرته على خلق نمط موسيقي خاص به، يستقي من الموسيقى اللبنانية والموسيقى العربية والموسيقى الشرقية والموسيقى العالمية.

وأصدرت خلال هذه المرحلة العديد من الألبومات، من أبرزها "كيفك إنت"، و"فيروز في بيت الدين 2000" الذي كان تسجيلا حيا من مجموعة حفلات أقامتها فيروز بمصاحبة ابنها زياد وأوركسترا تضم عازفين أرمن وسوريين ولبنانيين. وكان ألبوم "إيه في أمل" 2010 آخر ما قدمته من ألبومات عديدة.

وبقيت فيروز بعيدة عن الأضواء إلى أن جاء المقال الذي كتبه رئيس تحرير مجلة "شراع" حسن صبرا، الذي اعتبر صادما ومبتذلا من بعض جوانبه، خاصة في تناوله الجانب الشخصي من حياة فيروز، وهو جانب هو ملكها وحدها، ولا يحق لأحد الخوض فيه.

صبرا هو الصحافي ذاته الذي صفعه الرئيس اللبناني الأسبق إلياس الهراوي في عام 1998، خلال التعزية في وفاة والدة النائب ميشال المرّ في بلدة بتغرين، بسبب عبارات تضمنها مقال كتبه صبرا ضد الهراوي، على خلفية السِّجال حول الزواج المدني الذي صوّت على إقراره في مجلس الوزراء اللبناني.

هجوم صبرا على فيروز أعاد إلى الأذهان تلك الصفعة التي رأى المتابعون أنه يستحقها، وتمت معايرته بها.

فيروز ليست ملاكا وليست فوق النقد، لكن الناس لا تريد من فيروز سوى صوتها، كما يقول الصحفي والشاعر اللبناني زاهي وهبي: "فيروز جعلت حياتنا أخف وطأة، فهل نرد الجميل بغير الحب والعشق وإعلاء شأنها حتى تغدو وطنا موازيا؟".

ويحسم الجدل بقوله: "لها أن تحيا كما تشاء وتحب من تشاء وتكره من تشاء، ولنا منها نعمة الصوت".

آراء فيروز الشخصية وحياتها الخاصة شأنها وحدها، واختلافنا أو اتفاقنا معها لا يقدم ولا يؤخر، فكثيرا ما تعرض مطربون كبار للنقد وللتشهير، كما حدث مع محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحيلم حافظ وفريد الأطرش، لكن هذا الهجوم لم يؤثر إطلاقا في قيمتهم الفنية.

وعشرات المقالات لا تستدعي إغلاق أي شارع غضبا رغم اتفاقنا على أن ما كتب كان "اعتداء على أحلامنا وذاكرتنا وذكرياتنا وعلى تراثنا الفني"، كما ذهب عشاق "جارة الوادي" وصاحبة أغنية "شوارع  القدس العتيقة" و"وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان".

وأي نقد أو هجوم سيذهب في حال سبيله، ولن يعلق في الذاكرة طويلا، ويقول الأستاذ جيمس آلان فوكس من جامعة نورث ويسترن: "يجب ألا يكون هناك قلق أو ذعر، ولا رد فعل عاطفيا، أو محاولة للإصلاح بسرعة"، ويضيف أن "السماء لن تقع، وسيظل لونها رماديا لفترة".
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم