بورتريه

"بابا غزة".. يضيء قناديل القدس

الأب مانويل مسلّم
الأب مانويل مسلّم

بقبعة "الباسك" الشهيرة التي يرتديها باستمرار، ولباسه الأسود المعتاد، كان يسهر على راحة نحو 200 كاثوليكي يعيشون في قطاع غزة من بين 3 آلاف مسيحي غالبيتهم من الأرثوذكس. 

لم يغادر القطاع رغم التجويع والحروب، بقي يعاني مع أبناء الطائفة ومع كل الفلسطينيين من الحصار الإسرائيلي للقطاع. 

شخصية وازنة واسعة الثقافة والمعرفة ورمز ديني ووطني. 

تطغى عليه شخصية الرجل الوطني المقاتل أكثر من شخصية رجل الدين، فهو مقاوم ومقاتل ومدافع صلب عن حق المقاومة في الدفاع عن فلسطين والقدس. 

شخصيته لا تتوقف عند دوره الروحي والديني، فهو صاحب مشروع وطني يدعو إلى "تجريم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين".       

مشروعه الوطني الآخر كان جهوده المضنية لإيجاد أرضية للتفاهم بين حركتي "فتح" و"حماس"، كما كان له دور فعال في إيجاد حلول للوساطة في التوترات بين الفلسطينيين بمؤاخاته بين المسلمين والمسيحيين.  

الأب مانويل حنا شحادة مسلَّم، المولود عام 1938 في بيرزيت شمالي القدس، تلقى تعليمه الأساسي في مسقط رأسه بيرزيت، ثم التحق بالمعهد الإكليريكي في بيت جالا عام 1951، ودرس علم اللاهوت والفلسفة عام 1963. 

تقلد وظائف ومسؤوليات دينية وسياسية وثقافية عديدة، حيث عمل راعيا مساعدا لكاهن الرعية اللاتينية في الزرقاء والرصيفة في الأردن للفترة ما بين عامي 1963 و1968، ثم كاهنا لرعية عنجرة بالأردن عام 1968، ثم كاهنا لرعية جنين بفلسطين ومدرسا للتعليم المسيحي في مدرسة تراسنطة في الناصرة. 

أصبح في عام 1975 كاهنا للرعية الكاثوليكية في الزبابدة بفلسطين، ثم كاهنا للرعية الكاثوليكية في غزة في الفترة ما بين عامي 1995 و2009، وفي ذلك العام تقاعد بمسقط رأسه في بيرزيت. 

وتكشف قصة انتقاله إلى غزة جزءا مهما من شخصيته الصلبة، وقبل أن يعرض عليه الانتقال إلى غزة المقطوعة والمفصولة عن العالم رفض الكثيرون الانتقال إلى هناك، وبقي البطريرك عاجزا عن العثور على شخص ليتسلم رعية غزة.

 

ومن بين الجميع ظهر الأب مسلَّم لأنه "شجاع ولأن لدي ثقة كاملة بشعبي" كما قال هو متحدثا بفخر عن قراره الذهاب إلى غزة، مضيفا بنوع من الزهو: "يطلقون علي في أوساط الكهنة لقب ’الإرهابي الأكبر‘، إنهم يخافون في حين أنني أنا لا أخاف". 

صموده في غزة وتمسكه برسالته الدينية والوطنية، كان حافزا لمنحه لقب مونسينيور من قبل بابا الفاتيكان عام 2006. 

وبات يحق له لبس اللون الأرجواني وحمل صليب كبير مذهب. ووصف هذا الأمر قائلا: "إنه لقب تكريمي لمنحي مزيدا من الشجاعة ولإبقائي أربع سنوات إضافية هنا لأنه لن يكون من السهل إيجاد كاهن مكاني يوافق على القدوم إلى غزة". 

تولى رئاسة وعضوية العديد من الهيئات والمؤسسات الناشطة في مجال مقاومة الاحتلال والدفاع عن القضية الفلسطينية داخل وخارج فلسطين.

 

فهو عضو في "الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات"، ورئيس "الهيئة الفلسطينية المستقلة لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين (حكم)"، وعضو في "هيئة العمل الوطني" في غزة، وعضو مؤسس في "بيت الحكمة" في غزة، وعضو مؤسس في "لجنة كسر الحصار المفروض على غزة"، وعضو ناشط في لجان مهتمة بالمصالحة الوطنية الفلسطينية. 

اكتسب شهرته حين خاطب مسلمي فلسطين بعد قانون الاحتلال لمنع الأذان: "إذا منع الاحتلال الأذان في مساجد القدس ارفعوا الأذان فوق أجراس كنائسنا"، وكان ذلك أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 في عملية أطلق عليها الاحتلال اسم "الجرف الصامد"، وأطلقت "حماس" عليها اسم "العصف المأكول". 

وخاطب عموم المسلمين محذرا من الخطر الإسرائيلي قائلا: "إسرائيل لن تكتفي باحتلال فلسطين والقدس، بل ومع مرور الزمن ستطالب بالأراضي اليهودية في شبه الجزيرة العربية، وسيتلو سقوط فلسطين سقوط يثرب ومكة". 

ناضل الأب مسلَّم ضد الاحتلال الإسرائيلي وحث الفلسطينيين على المقاومة، واعتز بالعلاقة مع حركة "حماس"، وافتخر بدور المسيحيين الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.  

وانتقد التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، ودعا إلى العصيان المدني لإسقاط السلطة والاحتلال باعتبارهما "وجهين لعملة واحدة"، واعتبر أن الشعب الفلسطيني يعيش وضعا "مخزيا" بسبب الاحتلال والانقسام.

 

وحين شارك رئيس السلطة محمود عباس في تشييع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، اعتبر الأب مسلّم ذلك "سقوطا للمشروع الوطني" الذي يقوده "أبو مازن". 

عرف الأب مسلَّم بدفاعه الذي لا يلين عن القدس، التي لن تكون هناك قيمة لفلسطين دونها، بحسب قوله، وأعلن أكثر من مرة رفضه زيارات الشخصيات الدينية والسياسية للقدس باعتبار أن زيارة أي رمز عربي للقدس بمثابة "حل العقدة قليلا عن رقبة إسرائيل ومنحها نفسا جديدا، وشرعية متجددة"، كما يقول. 

يقاوم التطبيع العربي مع الاحتلال مستخدما أسلحته الثقافية والوطنية بقوله "القدس مدينة الله ولا يجوز لأحد أن يتخلى عنها، وكل المطبعين غرباء لأنهم بدون القدس". ويدعو القدس إلى أن "تتقيأ المطبعين وتلقيهم بالمزابل".  

ويخاطب المطبعين بلغة مباشرة وبسيطة بقوله: "أيها المطبعون المتخاذلون المنبطحون تحت إسرائيل، القدس ليست فضلات عواصمكم لتُلقى غنيمة لأعدائنا".  

مساهمة الأب مانويل هي جزء من مساهمة المسيحيين الفلسطينيين لأكثر من 150 عاما في الحياة السياسية والثقافية لفلسطين، فالطباعة والصحافة والمدارس والأندية كانت إلى حد كبير بين أيديهم، وكانوا روادا في تأسيس الصحف، ولمع بين مشاهير فلسطين الكثير من المسيحيين. 

ولم يكن حال الكنائس العربية أفضل من حال المساجد تحت الاحتلال فحين يتحدث الأب مسلَّم فإنه يصف ما جرى بـ"الكوارث التاريخية" التي حلت بكنائس ومساجد فلسطين، إذ يقول: "نحن الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين في صراع بل في عين الإعصار مع الصهيونية، من حروب ومجازر وسجون وحرق وهدم وإعدامات ميدانية وتهجير وتدنيس لكنائسنا وجوامعنا". 

ويرفض الأب مسلَّم الاتهامات التي تشنها جهات صهيونية ومشبوهة للإيقاع بين أبناء الشعب الفلسطيني، قائلا: "أسال من يقول إن حماس تضطهد المسيحيين بغزة: من أنت؟". متسائلا: "من هو الصديق إذا لم تكن حماس صديقة؟".

ويواصل توجيه رسائل مفتوحة بالصوت والصورة إلى الحكام العرب قائلا: "نحن المسيحيين الفلسطينيين سلمنا أجدادكم المسلمين الشرفاء مفاتيح فلسطين والقدس، وتسلمنا منهم العهدة العمرية.

 

نحن ثبتنا أمناء على العهد وسنبقى كذلك، أما أنتم، فماذا فعلتم بتلك المفاتيح؟ ولمن سلمتموها؟ نحن سلمناها إلى يدي أمير المؤمنين الطاهرة، وأنتم سلمتموها إلى أيدي الصهاينة الملطخة بدماء المسلمين والمسيحيين".

لا يهادن ولا يجامل أحدا، ولا يحب أن ينحاز إلى جهة دون أخرى، كما أنه لا يتقاضى أجرا من السلطة الفلسطينية أو "حماس"، وإنما يعيش على راتب التقاعد في البطريركية فقط. 

لذلك فإنه حين يدعو "المسيحيين الفلسطينيين إلى مقاومة الأصولية المسيحية الصهيونية، التي تجعل من الأرض المقدسة أرض الميعاد" فهو يعبر عن نفسه ولا يمثل طائفته. 

وحين ينشد في أعياد الميلاد وفي الصلوات، يخاطب الأب مسلَّم رعيته والفلسطينيين والعالم قائلا: "أنا هنا في المكان الذي يجب أن أكون فيه وقد اختارني الله لأكون هنا في هذا المكان وفي هذا الوقت ومع هؤلاء الناس لمواجهة هذا النوع من المشاكل. أنا رجل الله". 

ويقول موجها كلامه إلى الفلسطينيين: "احفروا الخنادق وتقدموا". 

التعليقات (0)