قضايا وآراء

قراءة في المواقف الممكنة للتونسيين من الانتخابات البلدية

1300x600
رغم عدم تمرير القانون الخاص بـ"مجلة الجماعات المحلية"، ورغم المشاورات الجارية بين سبعة أحزاب -من بينها المسار وحركة مشروع تونس والحزب الجمهوري- للضغط من أجل تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية، من المرجح أن تتم الانتخابات البلدية في موعدها المحدد يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وذلك بعد أن يدعوَ رئيس الجمهورية إليها في أجل أقصاه ثلاثة أشهر من موعدها المقرّر.

يبلغ  العدد الجملي للمسجلين لدى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات 5 ملايين و200 مسجل من مجموع 8 ملايين و200 ناخبا يشكّلون الجسم الانتخابي. 

وبلغ عدد المسجلين الجدد للانتخابات البلدية حوالي 487 ألف شخص، وهو رقم قابل لأكثر من قراءة مثل كل الأرقام القابلة للتوظيف السياسي. 

إذ يمكننا أن نعتبره دليلا على استمرارية ثقة المواطنين في المسار الديمقراطي رغم كل تعثراته. 

ولكن يمكن أيضا اعتبار هذا الرقم ذاته دليلا على عزوف شعبي عن الانتخابات، إذا ما نظرنا إلى العدد الجملي للجسم الانتخابي. 

وهو "عزوف" تحاول المعارضة تجييره لصالحها وتأويله على أنه تعبير عن مخاوف المواطنين، وعدم ثقتهم في المناخ العام الذي ستدور فيه الانتخابات.

وبصرف النظر عن هذه التجاذبات السياسية المتوقعة والمفهومة، فإنّ رمزية الانتخابات المحلية وانعكاساتها المؤكدة على الانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراؤهما سنة 2019، تدفع بجميع الفاعلين السياسيين (وملحقاتهم المدنية والإعلامية، بل حتى النقابية) إلى تبني مواقف هي أقرب إلى المواقف "الحدّية" التي لا تقبل المراجعة، وذلك نظرا لحجم الرهانات المادية والرمزية التي تحكمها. 

ويمكننا أن نتحدث عن ثلاثة مواقف "مثالية" كبرى، وهي جملة المواقف التالية التي يتحرك داخلها جميع الفاعلين الجماعيين:    

1- هناك موقف براغماتي يدعو إلى ممارسة الحق الانتخابي، مع افتراض القدرة على المراقبة والحساب لكل من سيختارهم المواطنون في كنف الحرية والشفافية. 

وهو موقف قد يبدو مثاليا، ولكنه أقرب إلى المزاج العام وإلى التعبير عن حركة التاريخ بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 رغم كل الانكسارات والانتكاسات. 

ويمكننا أن نتحدث داخل هذا الموقف العام عن موقفين جزئيين: موقف أوّل يساند إجراء الانتخابات في موعدها المحدد -وهو موقف النهضة والنداء وأغلب الأحزاب السياسية- وموقف ثان يدعو إلى تأجيل الانتخابات إلى شهر آذار/ مارس 2018 وهو موقف مدعوم من بعض أحزاب المعارضة مشروعا تونس والجمهوري. 

وبصرف النظر عن حجج الفريقين، وبغض النظر عن غلبة "التفاؤل" عليهما معا –تفاؤلهما بإمكانية تعديل المنظومة الحاكمة من الداخل عبر توسيع سلطات الحكم المحلي- فإن هذا الموقف يواجه تناقضات داخلية عدة يصعب عليه تجاوزها: 

على أي أساس سيختار المواطن وما قيمة اختياره في ظل هيمنة المال السياسي"المشبوه"، وفي ظل غياب "مجلة الجماعات المحلية" إلى هذه اللحظة؟ إذا كان الاختيار على أساس البرامج الانتخابية، فقد أثبت الواقع منذ انتخابات المجلس التأسيسي أن تلك البرامج ليست سوى دعاية حزبية ومزايدات انتخابية لا معنى لها واقعيا. 

وإذا كان الاختيار على أساس الموقف من الأحزاب (أي على أساس منسوب الثقة فيها)، فقد أثبتت كل الأحزاب- يمينا ويسار ووسطا- أنها نسخ معدّلة من التجمع ومجرد ورثة لسياساته وخياراته الكبرى المفروضة من طرف القوى الإقليمية والدولية. 

وإذا كان الخيار على أساس "شخصي" (أي على أساس المعرفة الشخصية ببعض المترشحين)، فإن علينا ألا ننسى أن هؤلاء مهما كان صدقهم ونزاهتهم سيكونون مجرد جزء من مشهد كامل لا يتحكمون في قوانينه ولا في موازين القوى التي تحكمه. 

ولعلّ أكبر نقد جذري يمكن أن يوجه للمنطق"التفاؤلي" القائل بالاشتغال على الأَمْدية الطويلة وعدم الاهتمام بمظاهر الردة والارتكاس إلى ما قبل الثورة -وقياس ذلك بما حدث في ثورات مماثلة- هو الخوف من أن يتحوّل هذا المنطق ذاته –برفضه الاحتكام إلى الإحصاء وبانحصاره في الوعي العفوي المرتبط أساسا بمجموعة من القيم غير القابلة للتكميم- إلى جزء من آليات تثبيت الوضع القائم وشرعنته، بل إلى جزء من الثورة المضادة وذلك بصرف النظر عن دوافعه أو مقاصده الواعية.

2- هناك موقف يدعي العقلانية والمبدئية وهو يدعو المواطنين إلى مقاطعة الانتخابات والامتناع عن التصويت. 

فالمشاركة في الانتخابات -في ظل الشروط الموضوعية ذاتها- ستعيد إنتاج النظام، وإن بصورة معدّلة صوريا. 

ولذلك يعتبر أصحاب هذا الموقف أنّ من أحد أشكال مقاومة السلمية لهذا النظام (والمساهمة في التعجيل بسقوطه) هي خفض نسب المشاركة إلى أدنى حد ممكن قصد كشفه أمام الرأي العام الوطني والدولي، وضرب شرعيته المستمدة أساسا من الشرعية الانتخابية. 

ومن الملاحظ أنّ هذا الموقف يتأسس على قواعد إيديولوجية متباينة ولا يتحرك في نسق إيديولوجي واحد. 

إذ يشترك فيه حزب التحرير مثلا -وهو حزب ذو مرجعية إسلامية- مع بعض الأحزاب العلمانية. 

ويرى هؤلاء أنّ نسبة المشاركة -في صورة ارتفاعها- ستكون دليلا على شعبية المنظومة الحاكمة -بسلطتها ومعارضتها- وعلى قبول أغلبية الشعب للسياسات الإصلاحية (ظاهرا) والمكرّسة للتبعية والتخلف (واقعا). 

ولا شك في أن أكبر نقد جذري يمكن أن يوجه لهذا الموقف -بالإضافة إلى منطقه الانقلابي الضمني- هو أنّ التقليل من نسبة المشاركة قد يمسّ قليلا من شرعية أية سلطة، ولكنه لا يطعن أبدا في تلك الشرعية. 

كما أن الامتناع عن التصويت لن يُغير شيئا في بنية السلطة ولا في منطقها ورهاناتها، بل سيعطي فرصةَ أكبر "للماكينات" الحزبية الكبرى كي تحتكر الحقل السياسي وتستبعد منه كل القوى التي قد تعهدد هيمنتها عليه، وإن في المدى البعيد.

3- هناك موقف أكثر راديكالية، وهو لا يكتفي بالمقاطعة وبالاحتجاج السلمي، بل يعلن ضرورة الثورة على النظام. 

وهو موقف قد يبدو مغريا من جهة ما يؤسسه من حقائق موضوعية -من مثل استحالة إصلاح المنظومة الفاسدة من داخلها، وهو ما يجعل القول بـ"التراكم" والإيمان بالزمن مجرد أسطورة من الأساطير المؤسسة بصورة مخاتلة لهيمنة النظام. 

ولكنّ هذا الموقف العقلاني في مقدماته ينتهي إلى مأزق كبير عندما نخرجه من دائرة الطوبى إلى مستوى الواقع: نحن نعلم أنه لا يتبنى المنهج الثوري إلا أصحاب الإيديولوجيات الأكثر دمويّة (اليسار الراديكالي والسلفية الجهادية)، وهو ما يجعل من تبنّي الثورة أمرا عدميا ولا علاقة له بأي أفق تحرري أو مواطني حقيقي. 

فهذه الإيديولوجيات في صورة نجاحها في الوصول إلى السلطة -بعيدا عن صناديق الاقتراع وإرادة الناخبين- ستعوّض نظاما فاسدا وتابعا -ولكنه يضمن الحد الأدنى من حرية التعبير والاحتجاج، ويفتح إمكانات حقيقية للإصلاح وإن على المدى البعيد- بنظام كُلياني يستعبد الناس بدعوى "مصلحة الجماهير" أو" أوامر الشرع"، وهي مطلقات دوغمائية لا يمكن أن تسمح بأي  احتجاج فردي أو جماعي عليها. 

ولا يعني ذلك ببساطة إلا استبدال نظام ديمقراطي "هش" يمكن معارضته فرديا وجماعيا، بنظام فاشي "قوي" لن يقبل إلا بالطاعة العمياء للشيخ والطائفة أو للزعيم والحزب. 

بعيدا عن منطق التفاؤل والتشاؤم، يمكننا اعتبار الانتخابات البلدية القادمة مكسبا وطنيا وخطوة "تقدمية" في تكريس المسار الديمقراطي. 

ولكنه مكسب هش ويحتاج إلى نضالات كبيرة لإخراجه من قبضة المال السياسي الفاسد ومن تلاعب مراكز القوى المتحكمة في تشكيل المشهد العام قبل الثورة وبعدها. 

إننا أمام توازنات للقوة -وأمام مصالح مادية ورمزية كبيرة- لا يمكننا مواجهتها بالخطابات الطوباوية ولا بالخطابات الانقلابية (الصريحة أو الضمنية)، بل يمكن فقط مواجهته ببناء استراتيجيات بديلة تكون قادرة على كسب ثقة المواطنين بالحجة والدليل لا بالديماغوجيا والتزييف. 

ولا شك أن تلك الاستراتيجيات البديلة لا يمكن أن تنجح في ظل هيمنة الانقسامات الإيديولوجية على الحقل السياسي، بل على مجمل المشهد العام. 

وهو ما يعني ضرورة تركيز النضالات المواطنية -محليا وجهويا ووطنيا- في نقطة مركزية واحدة هدفها إبعاد السجالات السياسية عن الصراعات الثقافوية الهووية -التي لا يستفيد منها موضوعيا إلا النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة- إلى مدارات مواطنية هدفها تغيير علاقات السلطة والثروة وإعادة بنائهما على أسس أكثر تعبيرا عن استحقاقات الثورة وعن انتظارات الفئات والجهات المسحوقة منذ بناء ما سُمّي بالدولة الوطنية.