قضايا وآراء

حزب النهضة في طاجيكستان وتتابع النكبات

1300x600
ربما لم يسمع كثير من العرب عن حزب النهضة الإسلامي في طاجيكستان، وتجربته السياسية الغنية التي قلما نجدها في أي تجربة إسلامية أخرى.

فالحزب هو وريث حزب النهضة الإسلامي الذي تأسس في عموم الاتحاد السوفياتي عام 1989 وانتخب لرئاسته الدكتور أحمد قاضي الداغستاني رحمه الله، ليكون الحزب الإسلامي الأول والوحيد الذي شكل مظلة لعمل الحركة الإسلامية في أواخر الحقبة الشيوعية ولتكون ساحات عمله ممتدة على امتداد جمهوريات الاتحاد السوفياتي، مستفيدا بذلك من سياسة غورباتشوف الانفتاحية.

لقد كانت قيادة الحزب في ذلك الزمن بعيدة النظر، لذلك لم تكن تنظر بارتياح لتفكك الاتحاد السوفياتي، وكانت كل ما تطمح له من سياسة غورباتشوف هو حصول الشعب على حريته وحقه في التعبير والعبادة والدعوة مع بقاء الاتحاد السوفياتي موحدا متماسكا، فالمسلمون كانوا يشكلون ثقلا سكانيا كبيرا، ويكفي أن نعرف ما كانت تشير إليه بعض الإحصائيات من أن ثلاثة من كل أربعة جنود في الجيش الأحمر كانوا من أصول مسلمة.

لم تجر الأمور على هذا النحو وتفكك الاتحاد السوفياتي للأسف، ما استدعى أن يعلن الحزب عن حل نفسه، وتفتت كوادره المؤسسون بين الجمهوريات والقوميات المختلفة وليتنوع نشاطهم بين العمل الخيري أو الفكري أو الدعوي، بينما استمر إسلاميو طاجيكستان يعملون تحت نفس الاسم (حزب النهضة) وإن اقتصر مجال عملهم على طاجيكستان واختير الشيخ عبد الله نوري رحمه الله ليرأس الحزب.

كانت الحركة الإسلامية في طاجيكستان من أنشط الحركات الإسلامية في الحقبة الشيوعية – رغم القمع والتضييق – وكانت تمارس عملها فيما يعرف بنظام الحجرات، وقد روى الشيخ عبد الله نوري لكاتب هذه السطور كيف كانوا يقضون الساعات في نسخ أدبيات سيد قطب والمودودي يدويا، وكانوا يتدارسونها في مجموعات صغيرة تختبئ ليلا في حجرة من حجرات أحد البيوت، بينما يجلس أحدهم على سطح البيت يراقب ويتأكد من عدم وجود العيون المتلصصة.

هكذا نشأت الحركة الإسلامية في طاجيكستان تنظيما سريا ضمن أقوى دولة أمنية في العالم، ولما خفت القبضة الأمنية في عهد غورباتشوف انضمت الحركة الطاجيكية إلى أخواتها في بقية الجمهوريات ليشكلوا حزب النهضة، ولما تفكك الاتحاد السوفياتي استقلت حركة النهضة الطاجيكية بذاتها، وبدأت العمل العلني المفتوح.

لم تدم فرحتهم طويلا بعد ذلك، فقوة انتشارهم وتقبل الشعب الطاجيكي لهم، لم تكن لتعجب حكومة إمام علي رحمانوف وحزبه فاندلعت الحرب الأهلية في البلاد في عام 1992 لتضطر الحركة لحمل السلاح، وتنتقل قيادتها إلى أفغانستان، وتستمر المعارك حتى عام 1997.

تقدمت قوات النهضة إلى دوشانبي العاصمة، وأبى الشيخ عبد الله نوري أن يدخل الإسلاميون المدينة على بحور الدم فاختار المصالحة حقنا للدماء وبعد مفاوضات أنجز الاتفاق عام 1997 على تقاسم السلطة بين النهضة وحكومة رحمانوف برعأي روسيا وأممية.

لم تكن العلاقة سمنا على عسل بين الطرفين بل اتسمت بالترقب والحذر الشديدين وشيئا فشيئا أخذ ميزان القوى الداخلي يميل إلى صالح الرئيس رحمانوف المدعوم روسيا مستفيدا من الوضع الإقليمي والدولي ودعأي الحرب على الإرهاب وتراجع الإسلاميين في العالم بشكل عام خصوصا بعد موجة الثورات المضادة العربية، كما أسهمت الطريقة التي واجهت فيها روسيا التطلعات الأوكرانية الميالة للاستقلال عن النفوذ الروسي في أن يفكر الشعب الطاجيكي ألف مرة قبل أن أي تحرك شعبي.

اتخذت الحكومة إجراءات تهدف لتقويض الإسلام السياسي بشكل عام على شاكلة مضايقة الحجاب وحظر الأسماء العربية والتضييق على الصلاة أثناء العمل، وكان المستهدف الأول من هذه الإجراءات هو حزب النهضة وقاعدته الشعبية العريضة.

وفي مارس الماضي جرت انتخابات برلمانية شابها الكثير من الشك وانتهت بإقصاء حزب النهضة من البرلمان ومنذ ذلك الحين ورئيس الحزب د. محي الدين كبيري النائب البرلماني السابق يقيم خارج البلاد خشية ملاحقته قانونيا بتهم ملفقة.

كان واضحا نية الرئيس الطاجيكي في استئصال حزب النهضة من الحياة السياسية ونقض اتفاقية السلام الموقعة عام 1997 الأمر الذي أدى إلى قيام رئيس الحزب السيد كبيري بإرسال عدة رسائل إلى الجهات الدولية الراعية للاتفاق مذكرا إياها بالاتفاق وبنوده وبما تقوم به الحكومة الطاجيكية من انتقاض له، غير أن هذه الرسائل لم تجد صدى يذكر.

مصدر القوى المقلق المتبقي لإسلاميي طاجيكستان هو تواجدهم في الجيش، وكان لا بد من افتعال أزمة لإقصاء مقاتلي حزب النهضة الذين تم استيعابهم في الجيش الطاجيكي بناء على اتفاق المصالحة، وقائدهم الجنرال حليم نزار زادة نائب وزير الدفاع. 

ورغم أن هؤلاء لم يعودوا مرتبطين بحزب النهضة لأن القانون يحظر على العسكريين الانتماء السياسي، إلا أنهم انتماءهم السابق بحد ذاته يشكل شبهة عليهم، وعلى هذا حاولت الحكومة الطاجيكية التحرش بهم عن طريق الطلب من جنرالات الجيش الموافقة على إجراءات الحكومة الخاصة بملاحقة حزب النهضة وما كان من الجنرال نزار زادة إلا أن رفض هذا الأمر واستبق الحكومة بإعلان التمرد والمطالبة بتصحيح الأوضاع السياسية الخاطئة. واشتبكت قواته مع القوات الحكومية التي استطاعت دحر قواته بعد أن أخذت الضوء الأخضر الإقليمي من روسيا والصين.

حملة اعتقالات واسعة جرت في إثر هذه الأحداث طالت قيادات الحزب الرئيسية المتواجدة في البلاد في وسط انسداد في الأفق السياسي بعد أن أصبحت الكلمة للحلول الأمنية والتعسفية، وسط صمت دولي على ما يجري.

لا يظهر أن لحزب النهضة خيارات من الممكن الرهان عليها في الوقت القريب، لكن تململا واضحا بدء يسير في صفوف شباب الحزب الذين يخشى من تحولهم إلى خيار المواجهة المسلحة.

لم يخرج الحزب عن كونه حزبا سياسيا يؤمن بالديمقراطية والتعددية، واختار طواعية أن يلقي بالسلاح، ويحقق السلم الاجتماعي، ويشارك في بناء وطنه، ويخوض غمار العمل السياسي المشروع، ولم يعرف عنه اتجاه للعنف، لا من حيث الفكر ولا من حيث الممارسة، والحزب يحظى بحاضنة شعبية كبيرة بين الطاجيك داخل البلاد وخارجها، لكنه ضيق الأفق وشهوة السلطة، وغرور القوة الذي أصاب رحمانوف جعله يتخيل في لحظة ما أن بإمكانه أن يشطب جزءا من شعبه وينهيه سياسيا.

ينبغي الاعتراف بأن رحمانوف ونظامه قد كسبوا الجولة ولكن ليست هذه نهاية المطاف، وما يقوم به ليس في مصلحة أحد وانسداد الأفق السياسي يعني توجه الشباب للعنف، خصوصا مع ما تعانيه البلاد من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وما تشهده منطقة آسيا الوسطى من تربص دولي يرغب في إشعالها لتقويض النفوذ الروسي والصيني.