كتاب عربي 21

ستيريو فلسطين... احنا بنأجر ليهم الميكرفون علشان يقولوا

1300x600
"تعرفي يا مريم، لو ابننا مش في السجن كنا عاملينها من زمان. مش عارف شو إحنا مستنين هون. كل يوم الوضع إلى ورا. متنغريش يا مريم بمعاشات الموظفين ايلي بتعطيها الدول المانحة ولا بالتسهيلات في القروض للناس علشان يشتروا شقق وسيارات. هذا الثمن ايلي بندفعوا حتى يظل الوضع زي ما هو. كل شيء مدروس، كل شيء متكتك". 

بهذه الكلمات خاطب زياد زوجته مريم التي كانت تحاول إقناعه بمساعدتها على إقناع أخويها سامي وميلاد، المعروف باسم ستيريو، بالتراجع عن فكرة مغادرة الأراضي الفلسطينية في اتجاه كندا.والمشهد من فيلم "ستيريو فلسطين" المنتج في العام 2013 لمخرجه رشيد مشهراوي. ليس هناك أكثر تعبيرا عن الواقع الفلسطيني لما بعد قيام "دولة" السلطة على ما سمح الاحتلال به من أرض تلاشت معالمها بين حروف الألف والباء والجيم والمعابر والطرق الالتفافية والبؤر الاستيطانية التي لم تتوقف عن التناسل يوما، من هذه الكلمات المباشرة التي لا تنطلق من فراغ بل من حقائق على الأرض.

في تقرير صدر قبل أيام عن وزارة مالية السلطة الفلسطينية، أظهرت البيانات أن 53 بالمائة من ميزانية السلطة تذهب إلى أجور الموظفين البالغ عددهم نحو 170 ألف موظف بمتوسط فاتورة رواتب شهرية في حدود 126 مليون دولار. كما أشارت تقارير سابقة إلى أن القروض البنكية في الأراضي الفلسطينية قارب أربعة مليارات ونصف المليار دولار في العام الماضي، خصصت ثلاثة منها للقطاع الخاص والأفراد. 

وشكلت القروض الاستهلاكية منها ما نسبته 29 بالمائة (885 مليون دولار). ليس خفيا أن السلطة الفلسطينية اتخذت من التوظيف في الإدارة سلاحا فعالا لاستقطاب المؤيدين و"تدجين" المعارضين الذين تحولوا مع مرور السنوات إلى رهائن راتب حكومي وقروض استهلاكية أصبح معها استمرار عملية "السلام" ومعها السلطة في تدبير الشأن العام الفلسطيني الضمانة الوحيدة لاستمرار تدفقها وتفادي البطالة والحجز على "الممتلكات".

ولعل في اختلاف التعامل مع تسوية أوضاع العاملين التابعين لرام الله مقارنة مع نظرائهم بغزة دليلا واضحا على هذا التوجه الذي صار أمرا واقعا يعيشه الفلسطينيون بالضفة والقطاع في مواجهة شعارات الوحدة والمصلحة الوطنية المشتركة.

في محل لبيع وتأجير معدات الصوت من فيلم "ستيريو فلسطين"، يحاول صاحب المحل إقناع ميلاد/ستيريو بالعمل في هذا المجال.

صاحب المحل: المنطقة مش راح ترسى على بر. إحنا والإسرائيليين قاعدين على ثلاث خوازيق. إحنا على خازوقين وهما على واحد. خازوقهم الشعب الفلسطيني ايلي قاعد يتنفس في وجوههم. وحنا خازوقين، الأولاني الاحتلال والثاني الانقسام يا حبيبي.

ستيريو: هلا خلينا بقضيتنا، قضية الأجهزة. هادي ممكن نحلها أنا وإياك أما هاديك القضية فكل يوم بيحكوا لنا شيء. قالوا أنو بعد هاي المفاوضات راح يكون في دولة فلسطينية. سيبني يا زلمة.
صاحب المحل: قالوا؟ طب ما يقولوا. إحنا بنأجرهم الميكرفون علشان يقولوا.

يبدو أن "الزعماء" لم يعودوا في حاجة إلى ميكروفونات الداخل للقول والتعبير. فهم موزعون بين عواصم العالم حيث يستقبلون ويكرمون وتفتح لهم الإذاعات والقنوات الفضائية بل منهم من صار مستثمرا ترجى بركاتهم لإنقاذ مؤسسات على حافة الإفلاس.

محمود عباس كان قبل أيام بمقر بلدية باريس حيث أكد مجددا "أن أيدينا ممدودة للسلام، والسلام الذي ننشده، ونعمل من أجله ليس لنا وحدنا، وإنما هو لنا ولجيراننا الإسرائيليين"، قبل أن يضيف " ندعو دائما أن تكون عاصمتنا القدس مفتوحة لجميع أتباع الديانات السماوية الثلاث". كان رئيس السلطة الفلسطينية يصرح، أما سلطة الاحتلال فقد كانت تواصل هجماتها واقتحاماتها للأقصى في محاولة لإقرار التقسيم الزماني والمكاني أمرا واقعا لولا صمود المرابطين والمرابطات به في ظل تخاذل عربي اكتفى، كالعادة، ببيانات الشجب والاستنكار. تخاذل لم يمنع رئيس السلطة الفلسطينية من الدعوة لتطبيق "مبادرة السلام العربية" التي كان الملك عبد الله بن عبد العزيز قد طرحها منذ العام 2002. 

لم يعلم محمود عباس أن المبادرة ولدت ميتة وأعيد دفنها مع وفاة صاحبها إلى الأبد. عفوا لم يكن التخاذل شعار المرحلة فقط بل كانت لشرطة السلطة غزوتها في التنكيل بشباب فلسطيني من الضفة خرج دفاعا عن مقدساته التي تنتهك نهارا جهارا في منافسة لجنود الاحتلال وآلته القمعية.

يثور ستيريو في وجه صديقه سمير الذي يعيب عليه اختياره مغادرة الوطن والهجرة خارجا.
ستيريو: عن أي بلد أنت عم تحكي؟ عن السلطة الوطنية الموجودة في الضفة ايلي ملهاش أي سلطة وكل همها تظبط حالها، ولا عن السلطة ايلي موجودة في غزة ايلي كل همها تاخذ الحكم وترجعنا مليون سنة ورا؟

الزمن زمن الانقسام وزمن المتاجرة بالشعارات والتنافس على رفع الصوت وتجييش العواطف في استغلال فاضح لنضالات ومسيرة كفاحية شكلت علامة مضيئة في التاريخ الإنساني المعاصر ومدرسة استلهمت كثير من الشعوب الرازخة تحت نير الاحتلال بعضا من أساليبها وطرق اشتغالها. لقد صارت رمزية الحركة الكفاحية الفلسطينية مجرد تراث يتصارع أبناء الوطن الواحد على احتكار الحديث باسمه والانتساب الفصائلي إليه.

اتفق ستيريو وصاحب محل تأجير معدات الصوت على أسس العمل وانطلقت رحلة تجميع العشرة آلاف دولار المطلوبة لاستكمال أوراق طلب تأشيرة الهجرة إلى كندا.

محفظة ستيريو تشمل سيديهات لكل الأذواق والتنظيمات والفصائل والمناسبات. من الأعراس والحفلات مرورا بالمؤتمرات الرسمية والفصائلية وانتهاء بالمحطات النضالية التاريخية من يوم الشهيد إلى ذكرى انطلاق الثورة وتظاهرات الاحتجاج على إقامة الجدار العنصري. لم يغب عن محفظة ستيريو غير النشيد الوطني الفلسطيني الذي ضاع في خضم الحروب الصغيرة بين الفصائل والانتماءات الحزبية الضيقة التي أضاعت الوطن. وفي إحدى الفعاليات لم يجد ستيريو غير كوب فارغ وملعقة صغيرة لعزف النشيد الوطني بطريقة كاريكاتورية معبرة عن واقع التشرذم الفلسطيني وتأثيراته على حاضر الوطن ومستقبله.

لقد تحول ستيريو الذي رفض بيع "شجر الزيتون ايلي بفلسطين علشان نهاجر لكندا" حين اقترحت عليه أخته بيع قطعة أرض عائلية لتمويل رحلته إلى هناك، إلى مجرد بائع للأوهام، ناقل للشعارات، وعارض لخدماته لمن يدفع مقابلا. ولضمان نجاح "تجارته" لم يتورع عن قبول صفقة مع سائق إسعاف تحولت معها سيارة الإسعاف إلى وسيلة نقل لمعدات الصوت لتفادي التوقيف في المعابر وما تسببه من ضياع للوقت وإرباك لجدول الفعاليات.

ستيريو (مستغربا عرض سائق الإسعاف): بس ده إسعاف.
سائق الإسعاف: كان إسعاف. لما انتهت الانتفاضة الأولى خف الشغل. هلا المفاوضات وإذا ما خربت وكيف ما أنا شايفها راح تخرب يتحرك الشغل شوية والكل بيشتغل.. يعني بتمشي الأمور.
هي المفاوضات كلمة السر. منها يعتاش الساسة ومعهم بقية الشعب. يريدونها طريقة للتنويم والاستمرار في المناصب، ويعتبرها جزء من الشعب وسيلة للعيش ولو على حساب طرف آخر من دات الشعب.

في حديث جمع صاحب محل معدات الصوت مع ستيريو قبل اتفاق الاثنين على أسس الاشتغال، يلخص الأول الموضوع كله في كلمات وهو يعده بازدهار "تجارتهما".

صاحب المحل: إذا بلشت المفاوضات المباشرة معناه كل يوم ندوة، مظاهرة، مواجهات واشتباكات. إحنا بنعيش من ايلي بيأيد وايلي بيعارض وايلي بيفاوض، زي القاضي الشرعي : ايلي بيتزوج بيدفع وايلي بيطلق بيدفع. منشار طالع ماكل راجع ماكل..

هي فلسفة لها مريدوها وشيوخها. وبين هؤلاء وهؤلاء تضيع البوصلة وتتجه الأنظار إلى الخارج كحل نهائي يبدو مناسبا للخروج من أزمة طالت فئات واسعة من شعب كافح لسنوات للبقاء على أرضه الفلسطينية متنقلا من مخيم إلى آخر في الداخل كما الخارج ومعلنا أن حق العودة لا تفاوض عليه. لكن الأزمنة تغيرت ولابد للفلسطيني أن يتغير معها. 

ستيريو (بعد حصوله على الجواز الفلسطيني): أول مرة بحصل على جواز فلسطيني. ممكن ولا مرة احتجته لأني ولا مرة فكرت أسافر. بس الغريب في الموضوع أنك تحصل على جواز سفر فلسطيني مش علشان تحتفظ فيه، علشان تبدلو بكندي.

يبدو أن محمود درويش أخطأ حين قال : وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر. فالواضح أن الوطن صار 
أخف من حقيبة والجميع مشاريع مسافرين في انتظار أي بلد استقبال. فسامي، أخ ستيريو، لا يكف عن ملاعبة نفسه في رقعة شطرنج كما الفصائل الفلسطينية التي تكاد تلاعب بعضها بالوكالة عن محتل غاصب. والنتيجة، كما في مشهد آخر من الفيلم، شيخ ضرير وسامي الأخرس والأصم، ضحية قصف الاحتلال بيت أخيه في جنين حيث كان متواجدا، يتصارعان على ميكروفون. لا الشيخ يرى سامي، ولا سامي يسمعه أو يقدر على مخاطبته. هو حوار الطرش والعمي والخرس يلازم دعوات المصالحة الفصائلية التي لا ينفض جمعها حتى يقفز المتحاورون عن نتائجها وكأنها لم تكن يوما. 

يختصر الفيلم الحل في قتل الشعارات وأصحابها، مما يفتح المجال للمواجهة ف"على هذه الأرض ما يستحق الحياة". لكننا نود السؤال عن الثمن حتى لا "يظل الوضع زي ما هو" كما قال زياد في بداية المقال. من الأكيد أن الثمن لن يكون أقل من مجازر جنين ورفح وقانا ودير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا التي ستبقى ذاكرة حية لنضالات شعب وقضية أمة ولو تحولت لدى ستيريو إلى مجرد أرقام في فاتورة خدمات تأجير وتشغيل معدات صوت بالدولار.