كتاب عربي 21

فعلاً.. طلعت ريحتكم

1300x600
"طلعت ريحتكم" شعار حملة أطلقها ناشطون مدنيون وبيئيون في بيروت؛ احتجاجا على تراكم النفايات في شوارع العاصمة اللبنانية منذ نحو أسبوعين، بعد انتهاء عقد الشركة المكلفة بجمع النفايات، فيما رفض أهالي بلدات لبنانية في مختلف محافظات البلاد استقبال نفايات بيروت في مكباتهم الصغيرة، رغم صدور قرار حكومي بذلك. فامتزجت "الزبالة" بالسياسة في خلطة فاحت منها روائح الطائفية  والمذهبية والمناطقية والسمسرات والفساد المُصان، في مقابل احتجاجات أهلية واجتماعية وبلدية وبيئية محقة، ترفض تحويل المناطق والقرى إلى مدافن لنفايات بيروت وضاحيتيها الشرقية والغربية، لا أحد يعلم كم ستبلغ وكيف ستنتهي. 

وحدها النائبة بهية الحريري وجهت كلمة إلى البيروتيين قالت فيها: "أشعر بحزن وخجل كبيرين من تنكّر اللبنانيين للعاصمة الحبيبة بيروت، التي احتضنتنا جميعا، وفتحت قلبها وبيوتها وأعمالها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وأسواقها لكلّ اللبنانيين من دون استثناء، وتحمّلت ظلم الحرب والقتل والدمار على أرضها وعمرانها، في معارك لم يكن لأهلها دور فيها، وبقيت على مرّ السنين العاصمة المعصومة من كلّ حقد وكراهية وتفريق بين أبناء كلّ المناطق والطوائف على حدّ سواء... إنني أشدّ على أيدي أهالي بيروت الكبار، وأقول لهم إنّني أشعر بالعار والحزن والخجل مما تلاقيه بيروت، وجهنا الجميل والمشرق، وكلي ثقة بأنّهم سيكونون كما عرفهم وأحبّهم رفيق الحريري، أقوياء بسلامهم وصبرهم ورفعتهم ومحبّتهم، وكما كانوا أكبر من الحروب والاغتيالات والانتهاكات، سيظلّون دائما كبارا لأنّهم مؤتمنون على لبنان، كلّ لبنان؛ لأنّهم يعرفون أنه من دون بيروت لا وجود للبنان... عذرا بيروت وأهلها ونطلب منكم السّماح.".

...ثمة من يعتقد أن بعض الأوراق ربما سقطت سهوا من بيان السيدة بهية الحريري، فلا بد أن ورقة ملحقة، تحمل الاعتذار أيضا مع مفعول رجعي من أهل طرابلس الذي أُغرقت مدينتهم في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، حصدت مئات الشهداء والجرحى والمعوقين وخلّفت آلاف الأيتام والمشردين.  طرابلس التي قدمت نخبة رجالاتها لإدارة لبنان الذي أشرق ومضى، وفتحت قلبها لكل الوافدين والنازحين إليها من أهلها اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، ودفعت وما تزال ثمن أصالتها وعروبتها، ففُجِّرت مساجدها وعُبِث بأمنها وفُقِّر أهلها ودُمّر اقتصادها. طرابلس التي بقيت ملاذا لكل خائف وكانت أكبر من كل المؤامرات، طرابلس التي من دونها يعود لبنان جبلا أكبر من بلدية وأصغر من بلد.

... ثمة ورقة أخرى يُعتقد أنها سقطت من بيان السيدة الحريري، وهي اعتذار من مدينة صيدا التي أُسقطت في صراعات الأصوليين السنة والشيعة، فيما ممثلوها لم يستطيعوا إقفال أبواب الهيمنة والقهر والتشبيح على أبناء المدينة، التي قدمت لبيروت من أعاد إعمارها ولفلسطين من استشهد على طريقها الصادق. صيدا التي من دونها يصبح لبنان صدى وطن.

... ثمة ورقة أخرى سقطت للاعتذار من أهل عرسال، الذين باعهم اللبنانيون الكلام وتركوهم في مواجهة مثلثة مع الاستبداد والحقد والإرهاب. عرسال التي صنعت شخصية اللبناني المقاوم، عرسال التي لولاها لما كان للبنان حدود شرقية.

... ثمة ورقة اعتذار أيضا وأيضا من عكار التي تقصف قراها المواجهة لمحافظة حمص فيستشهد أبناؤها ويهجرون. عكار التي غيرت باعتدالها المعادلة وقدمت أبناءها لسياج الوطن، وصوتَها لقيم الحرية والسيادة والاستقلال، عكار الفقر الشريف الصابر على الظلم والحرمان، انتظرت دهرا إنصافَها وإنماءها وزيارة جرافات الإعمار لها، فأَغَرنا عليها بشاحنات الزبالة.

... ثمة ورقة اعتذار أخرى من إقليم الخروب الذي عرف كيف يقدم للوطن ولم يعرف كيف يأخذ، إقليم الخروب الذي أثرى لبنان بعلماء وأدباء ونقباء حفظوا النموذج اللبناني في متحف حي لثقافة العيش المشترك، وبقيت نظرة الوطن إليه على أنه ريف قليل الاحتياجات.

... والاعتذار الأكبر الذي سقطت ورقته سهوا هو من بيروت نفسها، التي أورثتها حكمتُنا يوما أسود في سابعٍ من أيار استُبيحت فيه الأرواح والحرمات، وغيرت مفاعيله مفهوم السلطة والسيطرة والحكم والنظام، فأُعلِن عيدا مجيدا (على عيني وعينك يا فاشل)، فثُرنا لكرامتها وتشاركنا مع حزب 7 أيار في حكم وحكومة وحوار، دون أن يقدم هذا الحزب أي ضمانات لأهلها، رعايانا، بشطب 7 أيار من روزنامة أعياده الوطنية.

ولا بد من اعتذار أخير على حسابي من الرئيس المرحوم عمر كرامي، الذي هزّته كلمة السيدة بهية في مجلس النواب إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فقدم كرامي استقالة حكومته في حينه متصالحا مع أصالته. وفي اليوم التالي لم نرحم عمر كرامي لا في إعلامنا ولا في انتخاباتنا فجرحناه وأسقطناه وخونّاه، واتهمناه بأنه متعاملٌ مع النظام السوري، مع أنه لم يقدّم مفتاح مدينته طرابلس لهذا النظام، بل سلبَه الأخير مفتاح طرابلس بالقوة وبتزوير الانتخابات وضمّه إلى سائر المفاتيح...