كتاب عربي 21

سيناء تتحدث عن نفسها.. نزيف وشكوى: الحرب على الذات (1)

1300x600
يا أهل مصر تقولون وما زلتم "نحن الذين عشنا معنى الوطن منذ نعومة أظفارنا، ونشأنا نعرف حقيقة الوطنية والمواطنة، وكبرنا على صورة لمصر الكاملة المتكاملة، وحفظت قلوبنا وعقولنا أن مصر وطن المصريين.. نحن الذين تعلمنا وعلمنا أبناءنا وتلاميذنا أن حدود مصر الشرقية هي أهم حدود أمنها القومي، وأن عدوها الأول يقبع وراء هذه الحدود، وأن حب سيناء والحرص على سلامتها أولى علامات حفظ الوطن...".

تقولون .. لم نعرف في مصر وطنا إلا أن يكون جامعا مانعا؛ جامعا لأبنائه بغير تمييز ولا استبعاد ولا إقصاء، ومانعا لأعدائه من احتوائه أو اختراقه أو احتلاله أو الإضرار به. لم نعرف في مصر وطننا إلا قسما بأن نحافظ مخلصين على وحدة الوطن وسلامة أراضيه، وألا نفرط في شبر منه، ولا حبة رمل من صحرائه التي تحيط بجوانبه. لم نعرف من مصر إلا أنها حاصل جمع سيناء والوادي، الدلتا والصعيد، الساحل والصحراء، وأن أي تهديد لجزء من هذا الجسد المتكامل لا يقابله إلا تداعي الجسد كله له بالسهر والحمى. لكن الاستبداد الأعمى والانقلاب على الوطن وإرادة أهله يأبى إلا أن يستهين بخطورة هذه الركائز وأن ينتهكها بلا حياء ولا حساب.

فماذا عن أوضاع سيناء اليوم؛ ماذا تقول سيناء إذ تتحدث عن نفسها:

"أنا لست الجغرافيا الجامدة ولا الأرض الهامدة كنت ممر أقدام واستهداف غزاة لئام لا يعبر عنى بمجرد أرقام، أنا تلك القطعة الغالية من أرض الوطن، أنا سيناء في القلب والعقل المصري مكانا موقعا، التي طالما تغنيتم بها وفخرتم بأنها من أرضكم وكيانكم، قلتم عني "أننا نحافظ عليها ونستعيدها إذا ما غيبها عنا عدوان أو احتلال. رويناه بدمائنا ودفنا في ترابها خيرة شبابنا". يا أهل وطني: سيناء اليوم تنزف وتستنزف، لا من عدو غاشم ولا من محتل معتد، بل ممن هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويدعون أنهم حماة أمننا القومي. ما يجري في سيناء اليوم إنما هو كسر للبوابة الشرقية، وهدم لكل معنى للأمن القومي المصري، وخط استراتيجي في صناعة الاحتلال من الداخل. لقد شهدت أرض سيناء كل عدوان صهيوني على مصر: منذ العدوان الثلاثي 1956، فخيبة 1967، فانتصار 1973، لكنها اليوم تشهد انقلابا في التعامل الاستراتيجي معها، يجعل منها عدوا يحارب، وتمارس ضده كل أساليب الاحتلال الأجنبي بلا هوادة.

فبدءا من تفريغ الشريط الحدودي على نحو ما أنذر به قائد الانقلاب، على نحو لم يكن يحلم به العدو الصهيوني، مرورا بعمليات تهجير المواطنين وقصف منازلهم، حتى وهم تحت سقوفها وبين جدرانها، إلى تجريف المزارع، إلا الاعتقالات التعسفية واختطاف المواطنين بالجملة، والقتل بالشبهة وبالظنة وبالوشاية، إلى إشعال حرب بين الشعب والجيش، كل ذلك باسم حماية الوطن وحفظ الأمن، وبذريعة (الحرب على الإرهاب)، تلك الأكذوبة التي ترتهن الوطن ومستقبله وتهدر أمنه القومي من حيث يزعمون أنهم حماته وحراسه. إن قصص سيناء اليومية مما يدمى له القلب ويجن منه العقل. هل ما يجري على أرض سيناء يمثل حلا لمشكلة أو معالجة عاقلة لتهديد مهما كان؟ هل هذه العمليات الاحتلالية الباطشة ستصنع أمنا أو تستعيد وطنا؟

ياقومى، سيناء ليست أرضا جرداء نتحدث عن حبات رمالها وجمال سواحلها وكثرة ثرواتها، فيما نغفل أن سيناء إنسان وبشر وآدميون، أن سيناء جزء من وطن يعيش فيه مواطنون، أن سيناء رصيد وكنز استراتيجي من حيث الطاقة البشرية، لا في عددها الذي يقارب المليون مواطنا، ولكن في هويتهم المصرية الصلبة، وإيمانهم وفخرهم بهذا الانتماء، واستعدادهم للبذل والعطاء والفداء، كما كانوا دوما عبر المحن والشدائد التي مر بها الوطن. إن أهل سيناء هم حرس الحدود الحقيقيون، وهم حماة الجيش قبل أن يكون الجيش حاميا لهم. فمن حافظ عليها منذ كامب ديفيد، منذ فرض علينا ألا يكون في سيناء إلا أقل القليل من قوتنا المسلحة؟! وكيف نفهم هذا الترحاب والتهليل الصهيوني بهذا الشكل من عودة الجيش إلى سيناء الآن؟ وما هي أخبار (الزنانة) الصهيونية التي باتت تمرح في مجالنا الجوي بلا رقيب ولا حسيب واعتادت ضرب السيناويين بلا حساب ولا عتاب؟! ولماذا الدفع الأمريكي الصريح لهذه الحرب المشتعلة ضد الذات في سيناء والإمداد بالأباتشي وبطائرات إف 16 وغيرها؟ 

يا قومي، لقد خربت الأبواق الإعلامية بعضا من العقل المصري، حتى صرنا نرى من يقايض الأمن بالتنمية، والإرهاب بالتهميش، والجندي بالمواطن، وأمن الوطن برضا العدو الصهيوني وأمنه، حتى اعتاد الناس أخبار القتل والفتك بأبناء سيناء بحجة أنهم (إرهابيون)، و(تكفيريون)، و(كفار)، هكذا دون أن يكلف أحد نفسه التساؤل كيف عرف القاتل هوية المقتول؟، وكيف تأكد من أنه مارس القتل؟، وماذا عمن يقتلون من الأطفال والنساء في داخل ديارهم حين تهدم فوق رؤوسهم: أين التحقيقات؟ ومن المسؤول؟، وإلى متى يستمر هذا السيناريو الدامي المدمر؟ وما أثره على أهل سيناء المصريين؟ أم تراهم لم يعودوا مصريين؟، وأننا بعد أن فرطنا في أمننا القومي القريب بشيطنة المقاومة ومشاركة الصهاينة في حصار غزة وإذلالها، أصبح سهلا علينا أن ننتقل لنعلن الحرب على الذات في سيناء الوطن؟!. 

بني وطني، سيناء تنزف كل يوم، تنزف جنودا وضباطا، وتنزف رجالا وشبابا، وتنزف نساء وأطفالا، وتنزف ولاء وانتماء، وتنزف ثروات وطاقات، وتنزف حاضرا ومستقبلا.. كل ذلك جراء سياسات انقلابية لا تخدم إلا العدو ومخططاته، ولا تهدم إلا الوطن ومقدراته.. فمن من القوم عاقل يقوم ليوقف هذا النزيف الخطير؟ ومن يفيق من سكرته ليعيد إلى الوطن لحمته قبل أن ينفرط عقده؟ إن من يطنطنون بالوطنية ليلا ونهارا وهم في الوقت نفسه ينفخون النار في الحرب على الذات على سيناء، هم في الحقيقة أعدى أعداء الوطن، هم الطابور الخامس، هم المتصهينون الجدد، ولابد من إخراجهم من المشهد، ولابد من استعادة الصوت الوطني الحق، الذي يعرف مصر وطنا للجميع وسيناء قلبا ينبض ودرعا يحمي وإنسانا يستحق الأمن والتنمية والانتماء. فماذا يمكن أن تواصل سيناء حينما تتحدث عن نفسها؟، تتحدث اليوم عن قومها وبني قومها فماذا يمكن أن تخاطب من أضر بها وبأهلها وبعمرانها ونمائها؟ ،ستظل سيناء وهي تنزف تتحدث عن نفسها، في حديث آخر ستواصل سيناء بث شجونها والنيل من أرضها وأهلها وكيانها.