كتب

هل من توافق بين الإسلام وسياسات العلمانية؟ الخلافة العثمانية نموذجا

كان إلغاء الخلافة عام 1924م مرتبطا بالصراعات السياسية الواقعية التي أعقبت انهيار الإمبراطورية العثمانية أكثر من ارتباطه بمنزلتها الدينية..
الكتاب: "الإسلام وسياسات العلمانية، الخلافة والتحديث في الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين"
الكاتب: نور الله أردش 
ترجمة: عبد الله اسلام، فاطمة قرطمة 
الناشر: مؤسسة أركان للدراسات والأبحاث والنشر، 2020م

تدور دراسة نور الله أردش حول العلمنة في الشرق الأوسط في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من خلال تحليل أسباب انحسار الخلافة الإسلامية ثم إلغائها، وتداعيات ذلك على الشأن الإسلامي والعربي، عبر التحليل المفصل المستند على الوثائق الرسمية، وكتابات المفكرين الذين ساهموا في الإصلاحات داخل الإمبراطورية العثمانية. ويؤكد المؤلف في مقدمته أن العلاقة بين الإسلام والعلمنة كانت علاقة توافقية، وليست مجرد صراع ومواجهة في خضم عملية التجديد، لأن الإسلام كان مصدرا تشريعي لعملية التحديث في الشرق الأوسط. واستخدم أردش في دراسته المنهج التاريخي المقارن ليدرس كيف تحولت الخلافة في البداية إلى مؤسسة روحانية، وكيف ألغاها العلمانيون عام 1924م.

تكشف الدراسة باستخدام منهج تحليل الخطاب، أن كل الفاعلين ممن يمثلون العديد من الجماعات المختلفة وممن انخرطوا في المناقشات الدائرة، من الأصوليين والحداثيين والعلمانيين، قد وظفوا خطاباً إٍسلامياً مماثلاُ من خلال مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية والأساليب الخطابية لإضفاء طابع الشرعية على مواقفهم الأيديولوجية السياسية، ويوضح في دراسته أيضا كيف أسهم الإسلاميون والعلمانيون في علمنة هذا الخطاب الإسلامي في تلك الفترة، عبر دراسة الخطاب الإسلامي الذي سعى من خلال التطورات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتشكلها من خلالها، ص24.

الإسلام والسياسة والعلمنة

يقول ألان تايلون: "إن الإسلام بالنسبة لتركيا يعني أكثر من مجرد مذهب، بل أكثر من مجرد اعتقاد أو عقيدة خاصة، فهو كذلك ثقافة وإطار مؤسس يحكم كل مظاهر العلاقات الخاصة بين الأشخاص، وهذه الدراسة قائمة على افتراض أن ما لاحظه تايلور قرب نهاية القرن العشرين بشأن الإسلام المعاصر في تركيا كان دليلا حقيقياً بالنسبة لتركيا والشرق الأوسط الشامل في بداية القرن العشرين.

يضيف الكاتب: إن دراسته هي إلى حد ما نقد لفكرة التعارض الأساسي بين الإسلام والحداثة ومن بين النظريات الحديثة المبينة على هذا الافتراض، أطروحة تصادم الحضارات التي صاغها في البداية صاموئيل هنتينغتون عام 1993 م، ثم تلقاها بحماس بعض المفكرين المحافظين الجدد مثل برنارد لويس، وكثير من السياسيين المتشددين في الولايات المتحدة ودول أوربا كذلك... ووفقا لتطبيق أحدث للأطروحة الغضب الإسلامي ضد الغرب، في صراع طويل بين الحضارة المسيحية الديمقراطية التقدمية، والحضارة الإسلامية الرجعية بحسب وصفه، وتلك النظرة قائمة على الافتراض بأن هناك صورة واحدة فقط للحداثة، وأن الإسلام والحداثة وجهتا نظر ونمطا حياة متعارضان ومنفصلان"  بل يجادل في أن اخفاق الإسلام في التوفيق بين الاثنين قد أدى إلى التصادم بين الغرب والإسلام، ورأى في الحضارة الغربية صناعة الحداثة"، ص29.

التوفيق بين العلمانية والسياسة الإسلامية

يقع هذا المحور في منطقة تقاطع المناظرات حول العملية العلمانية في علم الاجتماع الديني من جانب، وما يتعلق بالحداثة في الشرق الأوسط في علم الاجتماع التاريخي من الجانب الآخر، وكل من كتب عن الدين والعلمانية افترض فكرة صراع جوهري بين السياسة والدين افتراضاً أساسياً وبناء على هذه النقطة فقد انبثق نموذجان رئيسان في النظرية العلمانية:

الأول ـ النموذج الأصول والأصولي المحدث الذي يحتج بأن أهمية الدين تضاءلت في العصور الحديث وفق ما صرح اميل دوركايم "أن كان هناك حقيقة واحدة أقرها التاريخ بما لا يدع مجالات للشك فهي أن الدين يشمل جزءاً ضئيلاً جداً من الحياة الاجتماعية".

إن الإسلام بالنسبة لتركيا يعني أكثر من مجرد مذهب، بل أكثر من مجرد اعتقاد أو عقيدة خاصة، فهو كذلك ثقافة وإطار مؤسس يحكم كل مظاهر العلاقات الخاصة بين الأشخاص، وهذه الدراسة قائمة على افتراض أن ما لاحظه تايلور قرب نهاية القرن العشرين بشأن الإسلام المعاصر في تركيا كان دليل حقيقياً بالنسبة لتركيا والشرق الأوسط الشامل في بداية القرن العشرين.
الثاني ـ هناك نقد حديث للنموذج الكلاسيكي والكلاسيكي المحدث من وجهة النظر العقلانية، وهو منهج الاقتصاديات الدينية، ويركز على آثار الدين على المستويات الإجمالية للتدين الفردي، ويقول المؤلف" بأن المشاركة الدينية قد زادت في واقع العصر الحديث بسبب السوق الحرة للأديان لغياب التنظيم الحكومي، والمنافسة بين الكنائس -الشركات- وجهود الملتزمين الدينيين، وبخاصة في الولايات المتحدة"، ويؤكد المؤلف أن دراسة الخلافة تقدم للباحث تحديداً فريداً، إذ ينبغي للمرء أن يتجاوز الانقسام الهائل الذي حل بالأدبيات، فمعظم الدراسات المتعلقة بإلغاء الخلافة تركز على تركيا فقط وعلى المرحلة الأخيرة من هذه العملية 1922- 1924م، في حين تركز الدراسات الأخرى على التحديث بوجه عام مع عزل تركيا وتجاهلها، والسبب وراء ذلك ثنائي:

1 ـ التحديث في العالم الإسلامي يفهم عادة على أنه تجربة ما بعد الاحتلال.

2 ـ تركز معظم الدراسات والخاصة بالتحديث في الشرق الأوسط على العامل العربي الذي هو في الحقيقة محيط الخلافة العثمانية لا مركزها، ص61.

لذلك فإن معظم الباحثين ليسوا مهتمين بالإمبراطورية العثمانية على الرغم من أنها كانت أقوى دولة إسلامية، بل كانت  قلب العالم الإسلامي على مدى خمسمائة عالم تقريباً؛ ولأن تركيا لم تحتلها القوى الغربية احتلالاً رسمياً، ثم إن الكثير من أدبيات بعد الاحتلال لا توليها اهتماماً كبيراً، ما أنتج رؤية قاصرة تجاه الشرق الأوسط، وهذا خطأ جوهري في دراسة العلاقة بين الإسلام والحداثة في الغرب، ص61.

التحديث والدين والعثمانيون

يبدأ التحديث العثماني في أواخر القرن الثامن عشر، ويظهر المؤلف دور الخطاب الإسلامي في عملية التحديث، ولكنه لا يتناول عملية العلمنة بحد ذاتها، إلا أنه يتناولها مع حركة التحديث واسعة النطاق للمؤسسات السياسية في الشرق الأوسط، ويتناول نقاط التحول الحاسمة في عصر التحديث العثماني، وأهمها: مرسوم الإصلاح 1839، وبيان الإصلاح 1856، ودساتير 1876م و1921م و1924م.

حدثت عملية التحديث الاجتماعي والسياسي والعلمنة في الشرق الأوسط بعد فترة من التحول الشديد، التي كانت تسمى غالباً بفترة الانحطاط في الإمبراطورية العثمانية ابتداءً من النصف الأخير من القرن السابع عشر، التي يمكن تمييزها بمعاهدة كارلويتز 1699م، عندما فقدت الإمبراطورية جزءاً من أراضيها للمرة الأولى، بدأ السلطان سليم الثالث 1774م، بالتحديث العسكري من خلال تأسيس مدارس العسكرية الجديدة، وإنشاء جيش نموذجي صغير يسمى النظام الجديد، يعتمد على أسس المبادئ العسكرية الغربية، وحاول تحديث نظام الدولة ونظام التعليم، وذلك من خلال تطبيق لامركزية الحكم، والإدارة، وتأسيس كليات الهندسة والطب إلى جانب المدراس الدينية، تلك الإصلاحات كانت سبباً في إثارة استياء عدد كبير من الانكشاريين -جنود السلطان- الذين قتلوه بعدما أطاحوا به، ص82.

ومن ثم عرج أردش إلى تطور الخطاب حول دور الإسلام في الحياة العامة، وتحليل الخطاب الإسلامي وظهوره في الصحافة العثمانية، وعلاقته بالحياة السياسية والاقتصادية وأكد أن "العلاقة بين الإسلام والعلمانية هي علاقة تكيف بمثل ما هي علاقة صراع، وأن طبيعة العلمنة في الشرق الأوسط تنطوي على استخدام واسع النطاق لخطاب خدمة الدين أو حماية الإسلام، وتظهر آثار هذا الخطاب في عصر التنظيمات هو المرحلة الثانية من عهد التحديث العثماني بعد النظام الجديد الذي قام به السلطان سليم ومحمود الثاني، ص89.

احتوى فرمان 1839 على كثير من الإجراءات الإصلاحية للتحديث، ولا سيما النظام القانوني وذلك لتحقيق إدارة جيدة، إلا مبعث الفرمان جاء نتاجاً للضغوط الأوروبية، وأعلن فيه عن ضمان حقوق معينة سميت بالمبادئ الأساسية مثل ضمان الحياة، والملكية، والشرف لجميع رعايا السلطان المسلمين وغير المسلمين على حد سواء، وعلى الرغم من أن المرسوم كان يهدف إلى إضفاء الطابع الرسمي على بعض الحقوق الفردية وحقوق الجماعات الدينية، وتأسيس مبدأ المواطن البدائي فقد كان ممتلئاً بالمصطلحات الإسلامية والإشارة إلى القران الكريم والسنة الدينية، وأعلن في المرسوم عن القوانين المتعلقة بحكم السلطان، وهي قوانين تنظم العمل القانوني والمالي معتمدة على عون الله سبحانه وتعالى والنبي الكريم، ص91.

أما فرمان 1856م فجاء لزيادة امتيازات المسيحيين الذين يعيشون في تركيا بالإضافة إلى منح الرعايا غير المسلمين الذين يعيشون في الإمبراطورية امتيازات مهمة، وهذا يعني انشاء مؤسسة جديدة كاملة تعتمد على أسس المواطنة الحديثة، وخطوة مسبقة نحو تشكيل دولة حديثة، ويعلق الكاتب على هذه المشروعين الإصلاحيين بالقول: "هو محاولة لإصلاح البيروقراطية والقانون على الطراز الحديث، الذي صار ممكنا من خلال الخطاب الموجه نحو تجديد المؤسسات القديمة وفقاً للشريعة الإسلامية، وستكرر كذلك منهجية تسليط الضوء على قصور المؤسسات القديمة مثل القوانين والحاجة الى أن يستبدل بها قوانين جديدة مراراً وتكراراً، وجعل الدولة العثمانية أقرب إلى أوروبا في تلك الحقبة"، ص95.

على طريق وضع الدساتير وتشكيل الدولة الحديثة وضع دستور 1876م، القانون الأساسي الذي يعد أول دستور على الاطلاق في التاريخ التركي، واشتمل على 119 مادة، وقد أعد في خضم الحرب "وكانت الاستراتيجية الخطابية الرئيسية المستخدمة في الدستور السابق هي فكرة تأصيل الإسلام والخليفة السلطان، وتظهر تلك الاستراتيجية في العديد من مواد الدستور ممثلاُ في نص القانون الأساسي على أن السلطة السنية العثمانية الحائزة على الخلافة الكبيرة ، وأن حضرة السلطان هو الحامي لدين الإسلام هو ملك جميع التبعة العثمانية وسلطانها بحسب المادة الرابعة، كما نص على مبدأ الفصل بين السلطات"، ص99.

أما دستور عام 1921 الذي ضم 23 مادة فقط، فكان أقل تعقيداً عما سبق، وكان احد الأسباب لهذا الاختلاف هو اعماد مبدأ توحيد السلطات، وعدم الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية مما شكل فرقاً مهماً بين الدستورين غير أن الاختلاف الأساسي قد ورد في المادة الأول السيادة معهودة إلى الشعب بلا شروط.

وأدخل دستور 1921 تغييراً جزئياً على أسس السيادة، وبدأت عملية الإصلاحات السابقة بشكل صريح مع القانون الأساسي، وأكدت الاستراتيجية الخطابية الكامنة في الأول بخلاف الأخير عدم الفصل بين السلطات والإسلام وأن الأمة والإسلام يتعايشان بوصفهما قاعدتين أساسيتين للسيادة فقد كان الجمعية الوطنية الإسلامية تمثل الأمة لم تعرف بعد في إطار العلمانية. ص103.

عزز دستور عام 1921م من الطابع الإسلامي للدولة التركية الحديثة كما نصت مادة 2 على أن "دين الدولة هو الإسلام"، وعلاوة على ذلك فإن الأمة لم تعرف في النص على أساس العرقية العلمانية، كما أنه لم يستبعد المسلمين غير الأتراك، وظهر البعد العرقي واضحاً في دستور عام 1924م ولكن ليس في اطار معاد للدين، واعتبر المؤلف "إدراج كلمة الأمة في الدستور الخطوة الأولى نحو العلمنة على الرغم من أن هذا التعبير الجذري قد تحقق بسلاسة على المستوى الخطابي، ومرة أخرى كان الخطاب الاستراتيجي المستمدة في النص موظفاً لخدمة الإسلام والشريعة".ص104.

أما دستور عام 1924م، أعلنه مصطفى كمال بعد ستة أشهر من إعلان الجمهورية وبعد ثلاثة أسابيع من إلغاء الخلافة عام 1923م، وكذلك إلغاء مكتب شيخ الإسلام وجميع المدراس الدينية، وأسست كلية اللاهوت ووزارة الشؤون الدينية بدلاً منها، ونفي السلالة العثمانية، واعتمد الدستور مبدأ الفصل بين السلطات ضمن المواد 4- 8 مع تخصيص أقسام منفصلة للهيئة التشريعية، وحذفت جملة "باسم الله".

كان لرمزية الخطابة الدينية ظهور واضح ومكثف إبان المرحلة الممتدة بين عامي1920- 1922م، عندما كان القوميون الأتراك الذين سيلغون الخلافة فيما بعد، والشريعة والمؤسسات كذلك بحاجة الى إضفاء طابع الشرعية على أنفسهم في صراع لم يقره الخليفة محمد السادس، وبحاجة كذلك إلى تلقي العون المالي والطبي والعسكري من العالم الإسلامي.
كما برز اتجاه مهم آخر يقترن بدستور عام 1924م، وهو القومية التي بدأت فعلياً منذ حرب البلقان عام 1912م، التي تسببت في فقدان أراضي البلقان، وسارعت إلى النضال من أجل الاستقلال الوطني بين عامي 1919م 1922م، وتطبيقاً للاستراتيجية الخطابية فقد أسهمت القومية في فصل الأمة عن الإسلام، مما يعني ضمنا تطبيق العلمانية المستحوذة على عقلية النخبة في الجمهورية الجديدة، وقد استخدمت كلمة الدولة التركية، وعبارة الجمعية الوطنية الكبرى، وكذلك مصطلح الأمة، ولكن لم يكن هناك تحديد للانتماء إلى تركيا؛ لأن الأمة لم تكن مستقلة بعد"، ص107.

في سياق تحليله لمشروع الفكري السياسي عند ضياء كوك الب حول المنهج الاجتماعي للفقه الإسلامي حين كان ذلك المشروع محاولة كبرى لعلمنة النظرية السياسية والقانونية الإسلامية على أساس التوفيق بين الفقه الإسلامي وعلم الاجتماع التابع لدور كايم، فألب يعد أهم الشخصيات الفكرية 1876- 1924م،التي ظهرت خلال عملية عصر التحديث العثماني التركي لتوظيف  الخطاب الإسلامي في المسار الغامض للعلمنة في الشرق الأوسط، وكان لألب تأثير كبير على النخبة السياسية فضلا عن المثقفين في جمهورية تركيا الحديثة قبل فترة قصيرة من تأسيس الجمهورية الجديدة، وبعدها، فقد تجسدت كثير من أفكاره في السياسات التي اعتمدتها جمعية الاتحاد والترقي التي هيمنت على الدولة من ثورة عام 1908م، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.

وعلى الرغم من أن كوك ألب لم يتول منصباً سياسياً مرموقاً فقد أثرت أفكاره على السياسيين والشباب بوصفه مفكراً مذهبياً عاما، وشكلت أفكاره الخلفية الرئيسة لبرامج جمعية الاتحاد والترقي وحزب الشعب الجمهوري، واعترف به تدريجيا على أنه المنظر الأيديولوجي الرائد، ولقب أبو القومية التركية الحديثة، ووصفه المؤلف أردش بأنه "المفكر المنهجي الوحيد الذي انتجته تركيا في القرن العشرين"، ومؤسس علم الاجتماع  في تركيا، وكان الهدف الرئيس ألب هو المواءمة بين الإسلام والقومية التركية من ناحية، والحداثة الغربية من جهة أخرى وهذا ما عبر عنه في شعاره الشهير "التتريك، والأسلمة، والتحديث"، ص119.

العلمنة في مركز الخلافة

هناك ثلاثة تطورات سياسة أثرت على منطقة الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى، واحتلال القوى الأوروبية بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا العالم الإسلامي ثم موقف الإمبراطورية العثمانية من هذه التطورات "هذه العوامل الثلاثة مسؤولة مسؤولية كبيرة عن تشكيل الشرق الأوسط الحديث، كما أدت إلى قيام تحديين مهمين للوضع الراهن"، ص215.

جاءت المحاولة الفرنسية لتأسيس خلافة في الشرق الأوسط، وخلافة عربية خططت لها بريطانيا في الشرق وكان رد العثمانيين على ذلك تأكيد وجود الخلافة وسلطتها القائمة في العالم الإسلامي "بدءاً من سبعينيات القرن التاسع عشر كان الشغل الشاغل للموالين العثمانيين في المحيط هو تفكك العالم الإسلامي"، وكان الطريق الأمثل للخروج من هذه الأزمة في رأيهم يكمن في اتحاد الأمة كلها في ظل قيادة الخلافة الإسلامية، التي كانوا يعدونها خط الدفاع الأخير في مواجهة الانقضاض السياسي والثقافي من قبل الامبريالية الغربية.

حول خشية الدول الأوربية من إحياء الخلافة يشير المؤلف: "وجدوا في شخصية السلطان عبد الحميد الثاني القائد القوي، الذي أكد أهمية الخلافة أثناء مدة حكمه الطويلة 1876- 1909م، كما أوضح دير ينجيل عام 1909م، أن السلطان استخدم أدوات مختلفة كالتعليم، والموسيقى،  الأسواق الخيرية والدولية، وجهود الدعاية في مواجهة البعثات التبشيرية الأجنبية، كما استخدم المؤسسة الدينية مثل صلاة الجمعة، والخلافة لإضفاء الطابع الشرعي على حكمه في الإطارين الداخلي والدولي فأصبحت الخلافة أساسا لاستراتيجية السلطات الكبرى الخاصة باتجاه الأسلمة، التي شكلت كلًّا من سياسته الخارجية والداخلية فلم يحاول توحيد المواطنين معا تحت قيادته فحسب، بل كان يحاول الوصول إلى الشعوب الإسلامية الأخرى خارج الإمبراطورية"، ص286.

إلغاء الخلافة: الإصلاح العلماني والتسويغ الديني

ركز الكاتب على إلغاء الخلافة عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى وإلغاء الملكية العثمانية 1922م، والخلافة 1924م مع وجود تيار المعارضة للخلافة بزعامة مصطفى كمال الذي ظهر قائداً للمقاومة التركية ضد الغزو اليوناني للأناضول بين سنتي 1919 و1922م، وعلى الرغم أن العلمانيين قد ربحوا المعركة السياسية والقانونية بتدميرهم كل الحكم العثماني، وسلطة الخليفة فإن الفريقين كليهما كانا يلجأن إلى ما وراء الاستراتيجية الخطابية المتعلقة باستمداد التسويغ الخطابي من الإسلام.

وكان لرمزية الخطابة الدينية ظهور واضح ومكثف إبان المرحلة الممتدة بين عامي1920- 1922م، عندما كان القوميون الأتراك الذين سيلغون الخلافة فيما بعد، والشريعة والمؤسسات كذلك بحاجة الى إضفاء طابع الشرعية على أنفسهم في صراع لم يقره الخليفة محمد السادس، وبحاجة كذلك إلى تلقي العون المالي والطبي والعسكري من العالم الإسلامي. ص357.

قامت استراتيجية العلمانيين الخطابية الرئيسية على إعادة بناء الخلافة بوصفها سلطة دينية / روحية بصورة محصنة، واستخدموا استراتيجيات متعددة مثل:

1 ـ ترسيخ إسلامية النظام السياسي ذي الطبقتين الذي تنفصل فيه الخلافة عن الملكية .
2 ـ رفع مكانة الخلافة في مواجهة الملكية غير الإسلامية.
3 ـ إعادة تعريف الخلافة بوصفها مؤسسة غير إسلامية في مقابل الدولة التابعة للجمعية الوطنية الكبرى.
4 ـ تكييف الدين وفق الظروف الحديثة.

أضف لذلك استخدامهم المتكرر للخطاب الإسلامي وظهور القومية كمصدر بديل للتشريع لدى العلمانيين، على الرغم من أن الخطاب لم يكن باتساع التسويغ الإسلامي نفسه، فإنهم كانوا يستخدمون خطاباً قمعياً ركز على وجه الخصوص على مفهوم السيادة القومية بطريقة تتم خطابهم الإسلامي بدلاً أن تعارضه، وأنهم كانوا في كثير من الأحيان يلجئون إلى مزيج من الخطاب الإسلامية والقومية لتسويغ حججهم السياسية الدينية ومواقفهم الأيديولوجية ما أوجد تناقضات داخل خطاباتهم، نبعت من التوتر العميق بين عالمية التعاليم الإسلامية وطابع القومية المحدد. ص358.

ختم المؤلف دراسته بالقول: "إن زوال الخلافة المأساوي قد ترك أثراً على معلم مهم في تاريخ المجتمعات الإسلامية فضلا عن أن الخلافة كانت تمثل القيادة السياسية الإسلامية القوية، وترمز كذلك إلى الوحدة الإسلامية، والصلة الدينية بين الشعوب الإسلامية، ومن ثم فإن الخلفاء كانوا يتمتعون بدرجة ما من السلطة الأيديولوجية حتى في المراحل التي كانوا ضعفاء جداً سياسياً وعسكرياً "كان الغاء الخلافة عام 1924م مرتبطا بالصراعات السياسية الواقعية التي أعقبت انهيار الإمبراطورية العثمانية أكثر من ارتباطه بمنزلتها الدينية، وقد كان قائد الجمهورية مصطفى كمال يخشى أن تكون الأسرة المالكة راعية للمعارضة تجاه النظام الجديد"، ص435.

حاول أردش أن يبين في دراسته أن يبين بأن الإسلام كان محوريا خلال كثير من عملية العلمنة، التي كانت بعدا مهما في تحديث الشرق الأوسط لكل المواقف الإسلامية، وكان الفاعلون السياسيون يستشهدون بالإسلام بطرق مختلفة لإضفاء طابع الشرعية على أداءاتهم، وهذا ينطبق على الإسلاميين أصوليين وحداثيين وعلى العلمانيين كذلك على نحو متناقض، ص352.