كتاب عربي 21

تأملات في خرافة الدولة "المرهوبة"!

1300x600
(1)

الدول تسقط من داخلها..

هكذا يخبرنا التاريخ، هكذا سقطت روما، وهكذا سقطت بيزنطة، وهكذا سقطت دول الخلافة السنية والشيعية في دمشق وبغداد وغرناطة والقاهرة، وهكذا يمكننا أن نبدأ الحديث عن الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة في مصر.

(2)

تتصاعد التصريحات الرسمية عن الإرهاب باعتباره الخطر الأكبر الذي يستهدف تفكيك وإسقاط الدولة في مصر، بينما الحقيقة غير ذلك تماما، حتى أننا غير مضطرين للإدلاء برأينا الخاص في ذلك، إذ يكفي أن نضع التصريحات الرسمية إلى جوار بعضها في سياق متصل، ونصدقها ونتعامل معها بجدية، لنكتشف بسهولة حجم التناقضات والتلفيق والأكاذيب المفضوحة، وأريحكم أكثر فأقول أنكم بدون الدراسة المتأنية ستكتشفون بسهولة ويسر أن المسؤول الذي يبالغ في خطر الإرهاب على إسقاط الدولة، هو الذي أكد في أكثر من مرة أن الدولة سقطت بالفعل، فهي "خرابة" و"أشلاء" و"شبه دولة"، أي أنه يحذر من سعي لص لقتل جثة!

(3)

لن أضيف جديدا إذا شرحت الفارق بين النظام الحاكم والدولة، ولن أضيف جديدا إذا نددت بالفهم الخاطئ لطبقة الحكام الذين ينظرون إلى أدوارهم وإلى أشخاصهم باعتبارهم الدولة، بل باعتبارهم مصر (الوطن والسمعة أيضا)، وهو تصور لم يصل إليه لويس الرابع عشر؛ الذي اكتفى باعتبار نفسه الدولة وفقط، وليس فرنسا بأرضها وشعبها.

وعلى سبيل التذكرة، سأستدعي حالة من أشهر حالات سقوط الدولة في مصر، وتحولها من سلطنة مترامية الأطراف، إلى مجرد ولاية تابعة مسلوبة ومنهوبة تعج بالظلم والفقر والجهل والفوضى. فقد كان السلطان العجوز قنصوه الغوري يشبه إلى حد كبير حالة مبارك؛ هبطت عليه السلطة بغير تخطيط، ولما امتلكها تشبث بها طويلا على حساب كل شيء في السلطنة (الدولة). ونظرا لاهتمامه بتثبيت النظام، نسي شؤون "الدولة"، حتى تفسخت من داخلها، وكان الجواسيس والبصاصون ينقلون كل شيء إلى الدول المتربصة والممالك الناشئة التي تطمح في التوسع على حساب السلطنة المتهالكة. ولما نشب الخلاف بين الغوري وسليم الأول، اضطر الغوري لدفع الأجور المتأخرة للمماليك الغاضبين، وجهز جيشا فاقد العزيمة والهدف، وخرج إلى دمشق في مشهد احتفالي مظهري، وكل ما في ذهنه أن اللقاء سينتهي بعتاب ومصالحة. ولما امتد حبل المفاوضات والخداع الاستراتيجي، اتخذ خطوة أخرى، فاتجه إلى حلب، لكن الموقف انقلب بعد تيقن سليم الأول بعدم قدرة هذا العجوز اللاهي وجيشه على الصمود. وفي الساعات الأولى للحرب، سقط الغوري عن فرسه بدون ضربة سيف، كإشارة إلى السقوط التلقائي لسلطنة وصلت قبل سنوات بالفعل إلى "أشلاء" و"شبه سلطنة".

(4)

في الجبهة الداخلية، تعامل نائب السلطنة طومان باي؛ على اعتبار ما حدث في "مرج دابق" مجرد "نكسة"، فارتضى البيعة وتسلم الحكم، وسعى مخلصا للمقاومة، لكن الأشلاء قتلته، ولم تنفعه محاولة رأب الصدع وترميم الشروخ؛ لأن الخيانة كانت اتجاهاً، والمسافة بين الحاكم المملوك وبين الأعداء القادمين على ظهر الخيل لم تكن كبيرة، ولم تكن تعني الناس في شيء، بل لم تكن تعني قطاعا كبيرا من طبقة الحكم وكبار التجار، فقد طال الظلم الجميع، وطال السجن الجميع، وبالتالي لماذا لا يجرب الناس ظلم القادمين فربما يكون أهون من ظلم القائمين؟!

(5)

كان مشهد الجسد المشنوق على باب زويلة للمقاوم طومان باي؛ لحظة عابرة في حياة الدولة التي تولاها فعليا أمراء الخيانة (من المماليك أنفسهم)، لحساب الفاتح الجديد الذي لم يكن مضطرا للإقامة بجسده وسط الأشلاء. إذن، يكفي إدارة "التركة" عن بعد، وهو ما تفعله اليوم واشنطن وتل أبيب؛ بتولية طراز "خائن بك" والحكم من خلاله.

(6)

حين سقط الغوري في مرج دابق وداسته الخيل، وسرق الجشعون عباءته ومتعلقاته السلطانية الذهبية، وقطعوا رأسه وأخفوا جثته، كانت مصر تنتظر نفس المصير.. نفس السقوط.. نفس الاستباحة والسرقة وقطع الرأس.. وحين شنق القادمون طومان باي وعرضوا أيقونة الفوبيا، لم يكن مقصودا شنق طبقة الحكام، ولكن شنق اتجاه المقاومة؛ لأن القادمين قد عزموا أمرهم على استئجار أمراء المماليك نفسهم لتنفيذ سياسات السلب والنهب وحلب الثروات والمهارات. وهكذا استمر الناس في الهم نفسه وأفدح، في الظلم نفسه وأبشع، في الفقر نفسه وأدقع، في القهر والانهزام والسلبية؛ لأن جثة المقاومة المتدلية كانت قد ترسخت في وجدان الحالمين بتغيير الحال إلى أفضل، فأدركوا أن أي تغيير بالضرورة هو تغيير إلى الأسوأ: لو اتحركتوا هتهدوا البلد.. لو ما اتحركتوش هتهدوا البلد.. لو.. وبالرغم من أن فكرة الدولة لم تكن قد ظهرت في ذلك العصر بمفهومها الحديث، إلا أن صورة "شنق المقاومة" وارتباطها بجريمة الخيانة الداخلية، التي نسبت إلى شيخ العربان حسن بن مرعي، كانت بذرة إحباط نمت وترعرت في البيئة الشعبية المصرية، وأخرت تكوين مفهوم الشعب بالشروط السياسية المعروفة حاليا، وبالتالي تعثر هدف تأسيس المقاومة بمعناها العام، وتعثرت حالة النقد الاجتماعي والسياسي، وتعثرت معها اتجاهات المعارضة السياسية المستندة إلى الشارع لصالح نخب ثقافية ومهنية مرتبطة بقصر الحاكم وعلاقات السلطة؛ أكثر من ارتباطها بالبيئة الاجتماعية الواسعة وقضاياها. وهنا يحضرنا السؤال: كيف يمكن تجاوز هذا المأزق التاريخي، والتفكير في تاسيس حالة مقاومة تستطيع تغيير النظام بدون إسقاط الدولة؟ وكيف يمكن تفادي صورة "المقاومة المشنوقة" أو تطهير الذاكرة الجمعية من العبارة الرديئة المنسوبة إلى سعد زغلول افتئاتاً: "مافيش فايدة"؟

(7)

لا أفضل أن أطرح في مقالي مبادرة شخصية، ولا أستحسن تقديم اقتراحات فردية؛ لأنها، مهما كان حجم الاجتهاد والإخلاص فيها، ستظل مجرد رؤية فردية لن تكون قادرة على التنامي والاتساق والتكامل والتفاعل مع فضاء الناس، إلا بحجم الإسهام الجمعي والتفاعل الخلاق من كل الأفراد والجماعات. لذلك أكتفي بطرح الأسئلة والتحديات، وأدعوكم للتفكير في سبل تحريرنا من احتكار النظام الحاكم لأدوات المقاومة وتشريعات الحرية وقيود العمل وأسقف النمو والتحسن.. حينها ستتحول مصر إلى دولة قادرة على إدارة شؤونها وامتلاك مصيرها واختيار حكامها، ولن تزيدها التحديات إلا جسارة وتحفيز وعزم، بدلا من أن تورثها الخوف والذل والمهانة وقلة القيمة والمكانة.

لا عز لذليل، ولا نصر لمنسحب.

#قاوم

tamahi@hotmail.com