مقالات مختارة

حقيقتنا الثقافية المضمرة هل هي مرض أم صرخة استغاثة؟

واسيني الأعرج
1300x600
1300x600
مثلما الأوضاع الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية منهارة عربيا، الأوضاع الثقافية لا تقل تمزقا وتهتكا. فما يحدث اليوم من حروب خداعية تتسع بشكل مخيف في الظل أو في العلن، إذ كلما اجتمع مثقفان في الخلوة كان ثالثهما مثقفا ضحية يجب نهشها، يدفع إلى تأمل استعجالي.

صحيح أنها فرديات لا تعبر عن المجتمع الكلي، لكن هذا الفردي عندما يتسع يصبح بالضرورة حالة اجتماعية. وهذا مرض كبير ينتشر بشكل سرطاني في العالم العربي، يبدأ عادة من غيرة بسيطة يصعب إخفاؤها، وينتهي على حواف الشللية والميليشيات المثقفة المتربصة والمدربة على الفتك الكلامي بكل من يخالفها، ثم الضغينة التي لا باب بعدها إلا باب جهنم التي تأكل صاحبها قبل أن تأكل غيره إذا طالته. لأن بعدها يصبح التحكم في الكراهية صعبا.

طبيعي أن الكاتب الناجح أو الفنان المميز أو السينمائي المدهش والساحر بأعماله، يتعرض دوما للطعن والمطاردة الحياتية، ومع الوسائط الاجتماعية المتنوعة والسريعة الانتشار، أصبح تشويه الصور أكثر من سهل. وقد يصل الأمر إلى المسائل الشخصية وفبركة الصور، إلى درجة أصبحت الشتيمة خارج كل فعل نقدي؛ لأن النقد قيمة ثقافية عالية هدفها التقويم أو المساجلة الفكرية المنتجة حتى من موقع الاختلاف، عندما تتأسس موضوعيا على الرغبة المسبقة في فهم نظام العمل الفني ونسيجه وحركيته. 

لا يمكن لأي مثقف عربي منشغل بهاجس ثقافي أو حضاري أو إنساني ما، أن ينجو من هذه الطاحونة، مهما حاول أن يكون صادقا وجميلا وواسع الروح، ولا يلتفت للمهاترات التي لا تكشف في النهاية إلا هزال أصحابها والأزمة المستفحلة التي وضعوا أنفسهم فيها.

هذا كله مفهوم ومستوعَب، لأن الأهواء البشرية من الصعب التحكم فيها، فهي مثل النار، إذا تخطت عتبة معينة تحولت إلى دوار ينتهي بصاحبها إلى أعماقها رمادا وجنونا، الجنون الفعلي وليس الرمزي. عندما أقرأ لبعض هؤلاء على الخارطة العربية بكل اتساعها، أشعر حقيقة بأن الكثير منهم على حافة الانهيار العصبي والموت قهرا والتحلل الثقافي أيضا. وأنّ حضور محلل نفساني بجانبهم أو المساعد الاجتماعي لإعادة التأهيل، يصبح أكثر من ضرورة.

الغريب في وضع مثل هذا هو أن الأنظار، بدل أن تتوجه للأدب والمناقشات الجادة والمفيدة، تتحول إلى معارك شخصية خاسرة، شديدة الانحدار. يكفي إلقاء نظرة خاطفة على جزء من الصحافة العربية والوسائط الإلكترونية المتعددة، لندرك درجة الانهيار والتهتك التي ليست إلا صورة صغيرة مكثفة ورمزية للانهيار العام. بالخصوص إذا وجدت هذه الضغائن من يزكيها ويزيد في إشعالها. 

كل الوسائل التدميرية صالحة كالاتهام بالعمالة والتواطؤ ضد مصالح الأمة والتطبيع، والسرقة الأدبية بدون تكليف النفس بإثبات ذلك، تبخيس ما يُكتَب، أو ما يُنجَز فنيا، وكأن البلاد العربية، وربما الأمة لم تنجب أحدا قادرا على التمايز وأنها جفت. بل أن بعضهم بدل أن يبدع في العمل الخلاق والمفيد، يوقظ كل الحواس المريضة النائمة في الأعماق، يذهب إلى درجة اقتطاع الجزئيات الأدبية والفنية والتصريحات، من سياقاتها، ويرميها في الفيسبوك أو في مقالات، وبشكل فوضوي، أنارشيك بمعنى الكلمة، وينشئ حولها مدارات نقاشية لا تفضي إلا إلى مزيد من البؤس وربما الشفقة على وضع، للأسف، هو جزء من حقيقتنا المضمرة. 

عندما نبحث طويلا في درجة البؤس الذي وصلت إليه هذه العقلية، ندرك كم أننا أصبحنا اليوم أعداء لأنفسنا عربيا. أكثر من ذلك، أعداء لكل فرادة أو إبداع أو تجريبية، وكأن الأمثل أن نظل نسير في خط الموت الذي يراد لنا أن نتثبت فيه أبديا حتى ننقرض مثل الكائنات التي لم تعد قادرة على مقاومة هزات الطبيعة. هذا العقل المتمادي في تحلله، يرى في كل مبدع خلاق، عقبة في طريقه. والغريب أننا عندما نتأمل الأعمال الفنية والأدبية التي يراد تسفيهها، فازت كلها باهتمام المتتبع عربيا ودوليا وأكثر المنجزات شيوعا واعترافا وترجمة، وهي تمثل لحظة نور في عمق الظلام الذي نعيشه ولا نُحسد عليه.

هذا الصراخ المرضي الذي ينشأ حول بعض القيم الفنية المنتَجَة يثير كثيرا من الجدل، حتى أصبح من الآلي والطبيعي، أن كل قيمة مميزة أو ناجحة تتعرض لهذا السيل من النقد غير المؤسس، الذي لا علاقة له بالفن والأدب، لا بد أن يكون فيه شيء ما يستحق التأمل. وبالفعل. هناك حقيقة نلمسها اليوم حتى لاإراديا. فتتحول هذه الضوضاء عبر الوسائط غير المسؤولة ثقافيا وفنيا وحتى إنسانيا، إلى وسيلة دعائية مجانية. تتجاوز إرادة سدنة الشتيمة والبؤس والانحطاط.

للآداب والفنون قوتها الداخلية التي تحميها. لا أحد يستطيع، مهما أوتي من قوة، أن يوقف لا آلة الكتابة ولا اللون والنحت والموسيقى، ولا خيارات المبدع في منجزه الفني النابع من ألم داخلي شديد الشفافية. الفنّ مخلوق من نور، بجناحين من غيم، كلما ظن بعض هؤلاء القتلة الجدد، أنهم أوقفوه، قام من عمق الرماد ليستمر محلقا في الحياة. التاريخ البشري يعطينا درسا عادلا في الموضوع. كم هي النصوص والمنحوتات واللوحات التي حوربت بشراسة لدرجة أن بعضها دُمِّر أو أحرق لكنها استمرت في الخفاء الذي يفرضه الفن من حوله في فترات القهر والموت وفي الوجدان العام أيضا.

ألف ليلة وليلة أحرقت عشرات المرات بسبب غباوات تتكرر في كل العصور، لكنها في كل مرة تنشأ من رمادها وتحضر بقوة في الذاكرة الجمعية والإنسانية. فلا شيء أمام المبدع إلا الإبداع، فهو الفيصل في النهاية. لأن النظام العام الذي حكم العقول والقلوب والأحلام في المائة سنة الأخيرة كان مدمرا، ليس فقط للنسيج العربي الحي ولخلاياه المتجددة، ولكن أيضا لكل أمل في مستقبل ممكن. كنت دائما أرفض أننا في مصحة عقلية تتسع مساحاتها كل يوم قليلا، التي تبناها الكثير من المبدعين. 

أستطيع اليوم أن أقترض استعارة العزيزة غادة السمان، رواية بيروت 75، للتعبير عن ذلك بلا خوف من ارتكاب خطأ ما. لقد انتفت الحدود بين العاقل وبين الذي فقد عقله. نحن في مستشفى كبير. مجانينه في الشوارع، وعقلاؤه في دهاليزه المغلقة بالأقفال الحديدية الصدئة. فينا اليوم جميعا الكثير من عجز فرح، وعلى أيدينا دم ياسمين، مقطوعة الرأس. 
0
التعليقات (0)