قضايا وآراء

أحاديث التسوية والمصالحة.. جعجعة بلا طحن

قطب العربي
1300x600
1300x600
أسمع (جعجعة) ولا أرى طحنا.. مثل عربي يجسد "حواديت" المصالحات والتسويات في مصر بين السلطة العسكرية ورافضيها، فخلال الأيام الماضية عادت موجهة هذه الأحاديث تتصاعد مجددا خاصة بعد تصريحات أدلى بها إبراهيم منير نائب المرشد العام للإخوان المسلمين لموقع "عربي 21" أعلن فيها انفتاح جماعته على أي أفكار تحمل "صورة واضحة وكاملة"، وهي التصريحات التي فتحت الباب لتكهنات كثيرة حول احتمالات وجود وساطات أو مبادرات فعلية، وهو ما لم تثبت صحته حتى الآن، وقد كان قادة الإخوان وعلى رأسهم منير نفسه الأسرع في نفي وجودها.

ورغم غياب المبادرات أو الوساطات الفعلية إلا أن حديث منير شجع البعض على التفكير بجدية وبصوت جهوري في خيارات المصالحة والتسوية السياسية المؤقتة أو الدائمة، وإمكانيات حدوثها، وشرائط نجاحها، وحدود تنازلاتها، وضمانات تنفيذها، والثوابت التي لا يمكن التنازل عنها، والأوراق التي يملكها كل طرف.

هذه الموجة الجديدة من "حواديت" المصالحة والتسوية سبقتها موجات أخرى على فترات متباعدة من قبل، واتضح أنها جميعا محض أفكار شخصية لمن طرحوها، لا يملكون أدوات لتنفيذها، كما أن أيا منهم لم يفاتح العسكر بها، ولكنه استسهل توجيهها للصف الرافض للانقلاب، وربما كان بعضهم يريد أن يسجل هدفا في مرمى هذا الصف بدعوى رفضه لمبادرات المصالحة وحقن الدماء، ولذا فإن تصريحات منير الأخيرة أربكت مثل هذه المحاولات التي تريد إلقاء المسؤولية على الإخوان، بل إنه قذف الكرة في ملعب الطرف الآخر وملعب الأطراف التي تدعي قدرتها على طرح مبادرات لحل الأزمة، وهذا هو الفارق بين خطاب "متخشب" رافض لأي شيء، يمنح خصومه سلاحا مجانيا ضده، وخطاب سياسي واع يعرف ماذا يقول، وكيف يقول، ويضع خصمه في موقع الدفاع لا الهجوم.

يخلط الكثيرون بين مفهومي التسوية والمصالحة، فيعتقدون أن أي كلام عن هدنة أو تسوية مؤقتة هو نفسه المصالحة مع نظام غاصب للسلطة، قاتل لآلاف الشهداء، ومعتقل لعشرات الألوف غيرهم، والحقيقة أن الهدنة أو التسوية في الصراعات السياسية عموما هي مجرد عمل مؤقت قد يفضي إلى مصالحة شاملة ودائمة ومستقرة وقد لا يفضي إلى ذلك، فالتسوية المؤقتة أو الهدنة المؤقتة قد تشمل مقايضة بين النظام وخصومه في أمور محددة بوساطة إقليمية أو دولية، أو حتى بوساطة محلية، وقد يكون لها ضمانات للتنفيذ وقد تكون هشة لا ضمانات لها، ولا تصمد أمام أصغر اختبار، كأن يتم الاتفاق على وقف المظاهرات مقابل الإفراج عن السجناء أو غالبهم، وهذا لا يعني توقف الطرف الرافض للانقلاب عن معركته في مجالات أخرى ضد الحكم العسكري في المحافل الحقوقية والقانونية والدبلوماسية الدولية وكذا على الصعيد الإعلامي والمعرفي، كما أن هذه التسوية – وهذا افتراض نظري- لن تمنع النظام من مساعيه لقمع المعارضة وشل حركتها وتشويه صورتها بكل الطرق. 

ليس من مصلحة عبد الفتاح السيسي والعصابة القريبة منه الدخول في أي حوارات حول مصالحة أو تسوية أو هدنة، ذلك أنه كائن وحشي يتغذى على لحوم البشر، ولا يجد لنفسه بقاء إلا في ظل معارك لا تتوقف يدعي أنها لحماية الوطن وأمنه القومي من خطر ماحق يهدده بمصير سوريا والعراق!!، كما أنه نجح لفترات طويلة في زراعة الخوف في نفوس الكثير من فئات المجتمع وشرائحه من هذه الأخطار (الوهمية) وتمكن من حشدهم إلى جانبه، لكن ثلاث سنوات أو تزيد كانت كافية لفضح هذه الأوهام، واكتشاف حيل السيسي للحفاظ على تلك الحالة الوهمية حفاظا على كرسيه المغتصب.

 ومن هنا فقد بدأت الكثير من الفئات تفيق من تلك الأوهام، وتدرك خطورة الوضع الذي وصلت إليه مصر في ظل حكم السيسي وعصابته، وما يمكن أن يحيق بالوطن إذا استمرت هذه العصابة في سدة الحكم وصولا إلى مستويات تنافس سوريا والعراق، كما أن أطرافا إقليمية تستشعر الآن خطورة غياب مصر عن دورها العربي والإسلامي في ظل حكم السيسي وعصابته، وبالتالي فإن من مصلحة كل تلك الأطراف الداخلية والخارجية إحداث تغيير في المشهد السياسي المصري حفاظا على الدولة المصرية، وإنقاذا لها من "غرقتها" الحالية وانهيارها المحتمل. 

هل تمتلك القوى الرافضة للانقلاب أوراقا للمساومة والوصول إلى تسوية عادلة؟ ربما يعتقد الكثيرون أن هذه القوى ضعيفة ومفتتة، ومنهكة، وبالتالي لا تمتلك أية أوراق، لكن هذا الأمر غير صحيح على إطلاقه، فهذه القوى وخاصة جماعة الإخوان المسلمين تمتلك قدرة على مواصلة النضال السلمي ضد هذا النظام لعدة سنوات مقبلة، وهو أمر مكلف ومرهق جدا للنظام، وفي حال قبوله بتسوية أو حتى هدنة مؤقتة فإن ذلك سيسهم في عودة الحياة للاقتصاد المصري ويخرجه من غرفة الإنعاش عبر ظهور الأموال الخائفة، وعبر تدفق الاستثمارات الخارجية والداخلية، وتحويلات المصريين في الخارج، وشيوع روح التفاؤل، والعمل والإنتاج، كما أن مثل تلك التسوية أو حتى الهدنة ستلغي المليارات المخصصة لمواجهة رافضي الانقلاب في الداخل والخارج وستعيد ضخها لصالح فقراء مصر، كما أنها ستسهم في وقف الكثير من الانتهاكات وبالتالي تحسين سجل مصر في مجال الحريات وهو ما يخفف كثيرا الضغوط الحقوقية الدولية على النظام وابتزازه بها.

في أغلب الظن أن النظام القائم في حلقته الضيقة غير راغب  في أي تسوية أو مصالحة لعلمه أنها ستكون تهديدا له، ولذا فالأغلب أنه سيسعى لكسب الوقت عبر مناورات سياسية وإعلامية وصولا إلى موعد الانتخابات الرئاسية في 2018، ولذا فإن الخيار الصحيح وربما الوحيد أمام القوى الرافضة لهذا النظام هو التوحد لمواجهته  تحت مظلة ثورية جامعة، تحظى بقبول شعبي واسع، وتسعى لكسب القبول الإقليمي والدولي أيضا، وحتى إذا اضطر النظام لقبول تسوية فلا ينبغي أن ينفرد فصيل واحد بهذه التسوية، بل ينبغي أن تتم ضمن هذا الإطار الوطني الجامع، حتى لا ينفرد النظام ببعضها، ويستقوي ببعضها على بعض كما فعل من قبل، أو يعقد تسويات جزئية مهينة مع بعضها، ويوسع شقة الخلافات بينها، فلا تقوم لها قائمة بعد ذلك.
التعليقات (0)