قضايا وآراء

تسفيه الأمور وفقدان الذاكرة

محمد شريف كامل
1300x600
1300x600
عندما اغتصبت فلسطين توقع الكثيرون أن العرب لن يرضوا ولن تبقى هذه الدولة كثيرا، إلا أن من خططوا لهذا العمل أدركوا تماما أن ذلك لن يحدث، واعتقد البعض أن السبب يعود لأن الشعوب لا تتمتع بالذاكرة اللازمة حتى تستفز أحاسيس الأجيال لترفض القهر والهزيمة.

الأمر ليس كذلك وإن ارتبط بفقدان الذاكرة، إلا أن فقدان الذاكرة ليس أمرا تلقائيا، بل هو صناعة وحرفة، وهو ليس فقدانا حقيقيا للذاكرة، بل ارتباطه أكثر بتجديد الأحداث والزحف خلال المربعات من مواقف الدفاع للهجوم ومحاصرة الطرف الآخر بالمستجدات القادرة على تسويف الأمور.

استخدام ذلك التجديد للأحداث هو محاولة مستمرة لتقديم مطالب مستجدة على المطلب الحقيقي والأحق، وبذلك أصبحت الأرض المغتصبة هي الضفة وغزة، والهدف الأكبر هو رفع الحصار عن غزة وتخفيف القيود على نقاط التفتيش، وأصبح حق العودة للضفة وغزة أمل كبير استنفد الجميع وألهاهم عن العودة الحقيقية.

كل ذلك ولم يفقد الشعب الفلسطيني حتى الآن حلم العودة، إلا أنه استُدرج لمعارك محدودة لا غنى عنها جعلت من المستجدات حلما أصغر ولكنه أقرب. وإن لم تُفقد المستجدات الشعب الفلسطيني حلمه الأصلي، إلا أنها شغلته بأحلام وقتية تحقيقها يعتبر انتصارا كبيرا، ولكنه يلفت أنظار العالم عن الحق ويحقق للمغتصب الاستقرار.

تذكرت كل ذلك وأنا أتابع انتفاضة نقابة الصحفين في مصر، والتي حولت قضية فرعية إلى قضية عامة؛ حققت للمغتصب العديد من المكاسب وأعادت مصر لمربع 2005 الذي طالما حلم به النظام. ولكن كيف تم ذلك؟ الأمر في غاية البساطة هو اختلاق مشاكل جديدة تسحب أصحاب الحق لمربع الهجوم على أهداف وهمية؛ لو تحققت لن يتحقق معها الحق الكامل، بل وستثبت المغتصب وتقويه.

فماذا حدث؟


لقد قامت الشرطة باقتحام نقابة الصحفيين لإلقاء القبض على اثنين من الصحفيين صدر في حقهم أمر إحضار من قبل المدعي العام، وكأن في مصر نظاما وقانونا ومؤسسات. وتحول الأمر في مصر لمعركة كبيرة، فالنقابة امتهنت والصحافة بذلك كُبلت، والأمن تجاوز الحدود! وعلى وزير الداخلية أن يستقيل.

واليوم يشاع أن إيطاليا سوف تتصالح بعزل وزير داخلية مصر، وكأن مشاكل مصر كلها تسبب فيها أحد صبيان الانقلاب. وتناسى الجميع أن ذلك كله ما كان لولا أننا فرطنا في الحق الأصيل، وهو حق الحرية يوم قبل هؤلاء القائمون على نقابة الصحفيين بأن يدخلوها على أشلاء من الحقوق ما دامت ليست حقوقهم. فقد اُعتقل الصحفيون، وأغلقت المنابر الإعلامية، وحُلت المجالس النقابية لأنها لا تتوافق مع المنظومة الحاكمة.

وما الذي سينتج عن ذلك؟ هناك ثلاثة احتمالات:

- لو استقال وزير الداخلية وأُرضيت النقابة، فقد تحقق النصر الكبير. لقد انتصرت النقابة واستقال من تعدى على الحقوق. وسيطنطن المتخاذلون فرحين مهللين بأنه كذلك تدار المعارك وتحقق الانتصارات، شامتين في الثورة الحقيقية بأنها لن تحقق شيئا لأن سياستها خاطئة، لأنها تحارب النظام وتسعى لإسقاطه.

- ولو لم يستجب النظام وتوقفت الضجة وماتت مع الوقت أو بافتعال قصة أخرى، فإن المنظومة الأمنية قد انتصرت وثبتت أقدامها وكسبت خطوة جديدة في الصراع الداخلي للدولة العميقة.

- وقد يحدث الأخطر من ذلك، وهو أن ينقسم حمائم الصحافة إلى حمائم قد تخالف النظام وأخرى لن تسجد لغير النظام.

وفي جميع الحالات قد كسب النظام، كيف؟

في جميع الحالات بقي النظام كما هو لم يتحرك خطوة للخلف، بل وتقدم للأمام، ففي السيناريو الأول أثبت النظام أنه لا يحابي أحدا وأنه مع الحق بمفهمومه. وفي السناريو الثاني توحدت قوى الدولة العميقة وانتصرت القوة على الحق وثبت مفهوم النظام أنه الأقوى، وفي السيناريو الثالث ينتصر النظام ويستبدل أدواته الإعلامية بأخرى أكثر ولاء.

نعم في جميع الحالات ينتصر النظام المغتصب للسلطة، فقد عدل مفهوم الحق وتراجعت المفاهيم خطوة للوراء، وفي ذات الوقت أثبت النظام أنه خارج دائرة الصراع وأن الشعب يقر بمشروعيته ويتعامل معه من ذلك المنطلق. والنجاح الأكبر أننا جميعا، كتابا وقراء وثوارا، نسينا ماذا كان الأمر. ولماذا كل هذا الضجيج؟

وحسب ذاكرتنا سنعود للوراء، أغلبنا قد نسي تماما ما هي القضية؟ وبعضنا سيتذكر أن هؤلاء الصحفيين اختلفوا مع النظام حول بيع الأرض ورفضوا التنازل عن تيران وصنافير. ومنا من سيستعيد الذاكرة، ولكنها مراحل من الوعي، فالبعض سيقف عند تيران وصنافير، والآخرون سيتذكرون مشكلة الدولار، ومنا من سيقف عند قتاة السويس، ومنا من سيتألم لسوريا، ومنا من يتساءل أين إسكان المحتاجين وأين مشاريع الشباب؟ بل منا من هو أقوى ذاكرة وسيتذكر نهر النيل الذي كان، وآبار البترول، بل وقضية الغاز وحصار غزة..

ومنا من يرجع سنوات تلو الأخرى للوراء ويتذكر ثلاث سنوات شملت عشرات الآلاف من المعتقلين ومن أُغتصب وصُودرت أمواله، وآلاف الشهداء ممن قتلوا بغير حق، ورابعة والنهضة ومسجد الفتح، والسنوات الثلاث العجاف منذ انقض الخائن على الحكم (..).

وسيظهر بيننا من يدعوننا لنسيان ذلك الماضي والاصطفاف لإنقاذ ما بقى، إلا أنني وبكل وضوح أعود للتأكيد أنني من هؤلاء الذين لم يفقدوا الوعي ولن يخلطوا الأمور، وستظل المسأله عندنا في غاية الوضوح.

ما يحدث في مصر هو تخريب متعمد، هو جريمة كاملة مع سبق الإصرار والترصد، تديرها المنظومة الحاكمة، وهي تحالف بين أصحاب المصالح المحليين والإقليميين والدوليين، ولن ينصلح حال البلاد إلا بالقضاء على ذيول المنظومة المحليين من الدولة العميقة وأصحاب رؤوس الأموال الطفيلية التي تتغذى على دماء الشعب وعملاء المنظومتين الإقليمية والدولية.

ولذا فقد اخترنا الثورة الشاملة التي تتحقق بتسليم الحكم للشعب، وإخراج العسكر من قصر الرئاسة إلى الأبد، وهذا لن يتحقق إلا بعودة الشرعية التي هي صمام الأمان الوحيد لتحقيق الحلم وإبطال ذلك التدمير بإبطال توقيع مغتصب السلطة على كل قرار وعقد، وإخراج الجيش من منظومة الحكم، وتطهير الدولة من الفساد الراسخ. وعندها فقط يكون الانتصار.

فنحن ثائرون وعلى هذا الدرب سائرون.
التعليقات (0)