مقالات مختارة

العبث بوقف إطلاق النار

ديفيد هيرست
1300x600
1300x600
كتب ديفيد هيرست: الآن بتنا نعلم أن المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار لم تكن مبادرة لأنه لم يحصل أن استشار أحد واحداً من طرفي النزاع، ولم تكن مصرية. فبحسب تقرير نشر موقع "عربي 21"، تم طبخ هذه المبادرة من قبل الإسرائيليين وطوني بلير، هذا بالإضافة إلى أنها نشرت ضد رغبة الولايات المتحدة، وذلك بهدف إجهاض مقترح منافس كانت تسعى فيه دولة قطر.
 
والحقيقة أن هذه المبادرة لم تكرس دور مصر التاريخي كوسيط في فلسطين وإنما قتلته. أياً كان ذلك الذي يجري في أحد فنادق القاهرة الآن، حيث يوجد وفدان أحدهما إسرائيلي والآخر من حماس، فإن الحديث الجاد لا يحدث هناك وإنما في قطر وتركيا.
 
وهذا يمثل في حد ذاته منعطفاً جديداً، كما هو أيضاً حال قرار حماس رفض اعتبار مصر طرفاً مفاوضاً. وكانت مصر منذ اتفاقيات أوسلو قد استفردت بذلك الدور، وكان الملف الفلسطيني بحوزة دائرة المخابرات العامة هو أهم ملف تحتكره مصر وتعتبره ثروة مهمة، بل جوهرة التاج فيما يتعلق بسياسة مصر الأمنية في المنطقة. وحافظت مصر على ذلك في كافة الظروف، في أجواء الدكتاتورية وفي أجواء الديمقراطية على حد سواء، وآمن بحيويته لمصر مبارك ثم من بعده محمد مرسي.
 
كانت تلك هي القناة التي تحدثت من خلال إسرائيل وحماس، والتي تم من خلالها التفاوض على صفقات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. لقد كانت الآلية التي رفعت مصر إلى مرتبة الوسيط المتنفذ في الشرق الأوسط وكانت الأداة التي حصلت من خلالها مصر على النفوذ والمال من الطرفين. فبغض النظر عما كان يفعله مبارك بالإخوان المسلمين داخل مصر، أبقت دائرة المخابرات العامة على قنوات الاتصال بأشقاء الإخوان المسلمين في حماس. كان مبارك دكتاتوراً عسكرياً بذل ما في وسعه لاحتواء الإخوان المسلمين داخل مصر، ولكنه كان في نفس الوقت يمارس البراغماتية في تعامله وتواصله مع حركة حماس في غزة.
 
ذهب كل ذلك أدراج الرياح في يومنا هذا، والسبب إلى حد كبير، وإن لم يكن السبب الوحيد، هو من صنع عبد الفتاح السيسي. يلوم الغزيون إسرائيل وداعميها الغربيين - في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية - على الحصار، ولكن، وبكل صدق، الحصار الذي يفرضه الجانب المصري أشد بلاء وأكثر وحشية. كان العام الماضي أسوأ الأعوام التي مرت على غزة بسبب التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل وبسبب حماسة المصريين إلى تدمير الأنفاق وإخلاء طوق صحي على امتداد الحدود عبر حدود مدينة رفح.
 
إلا أن اغتراب مصر عن غزة هو في نفس الوقت نتاج انضمامها إلى النادي الدولي الذي أصبحت عضواً فيه. ما نراه بوضوح الآن سواء في حالة الحرب أو حالة السلم في الشرق الأوسط هو ظهور ثلاث كتل إقليمية متنافسة.
 
هناك نادي الثورات المضادة وأعضاؤه البارزون هم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر، والذي تجد إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نفسها منجذبة تجاهه بطبيعة الحال وانسجاماً مع مواقفها التقليدية. ترى هذه المجموعة أن الديمقراطية في العالم العربي عدو لدود، وخاصة حينما تقع السلطة في أيدي الإسلاميين. كلما زاد قمع هذه الأنظمة سياسياً لشعوبها كلما زاد شعور حكامها بالخطر المحدق بهم بسبب نسائم التمكين السياسي التي تهب عليهم من الخارج.
 
وهناك النادي الذي يضم كلاً من تركيا وقطر وتونس والمغرب، وهذه دول تظهر الود لحركات الإسلام السياسي بل وتدعمها مالياً. ثم هناك الكتلة الشيعية التي تقودها إيران وحزب الله. والجميع يتنافس على الجائزة الكبرى: فلسطين.
 
لما كان السلاح المفضل في هذا الصراع الخليجي المدمر للجميع هو قناطير مقنطرة من المال، فإن التنافس الحاصل بين ثلاث دول متجاورة هي السعودية والإمارات وقطر يمكن أن يغذي أي عدد من الصراعات بالوكالة - في سوريا، حيث مول السعوديون داعش، وفي لبنان، وفي ليبيا، وفي اليمن، وفي مصر نفسها. ولذلك، ما حفز مصر على إعلان مبادرة لوقف إطلاق النار هو منع قطر من الإعلان عن مبادرة منافسة.
 
من الواضح أننا بصدد بيئة أكثر تعقيداً مما قبل للتفاوض حول تهدئة بين حماس وإسرائيل لأن البيئة نفسها تشهد تنافساً شديداً، ومن ادعى من هذه الدول أنه محايد فهو أبعد ما يكون عن الحياد.
 
ما أراده نتنياهو من شن الهجوم على غزة هو تدمير حكومة الوحدة التي نجمت عن المصالحة بين حماس ومحمود عباس. إلا أن الإمارات العربية المتحدة مهتمة أكثر باستبدال حماس في غزة برجل فتح القوي محمد دحلان، والذي كان سابقاً أحد استثمارات السي آي إيه والمخابرات البريطانية.

 تستضيف الإمارات العربية المتحدة محمد دحلان وتموله وتديره. هناك احتمال متزايد بأن يقتنع محمود عباس بالترجل وقد مني بالهزيمة وبلغ من العمر عتياً، وحينها فإن محمد دحلان سيكون مرشح هذا المعسكر لتولي قيادة حركة فتح. ما تشهده المنطقة من مكر وتدبير بهدف ترتيب وقف لإطلاق النار يتعلق بحسبة مصالح مناطها من سيخرج رابحاً ومن سينتهي به الأمر خاسراً بعد أن ينجلي غبار المعركة.
 
في المقابل لدى حركة حماس حساباتها الخاصة. يقولون في حماس إنه لم يكن لهم علاقة بخطف الفتيان المستوطنين الثلاثة (وهي العملية التي لو نفذت بموافقة قيادة حماس في غزة أو في الدوحة لكانت كفيلة بتدمير حكومة الوحدة التي كانوا حريصين على بقائها). كان الإسرائيليون يعلمون أن الفتيان الثلاثة قضوا نحبهم بعيد اختطافهم مباشرة، ولم تكن حملة البحث الزائفة عنهم سوى غطاء استخدمه نتنياهو ليقوم بعمليات اعتقال جماعية لقادة حماس السياسيين والعسكريين من الأسرى المحررين الذين كان قد أخلي سبيلهم بعد الهدنة السابقة.
 
أراد نتنياهو إفشال الوحدة الفلسطينية لامتعاضه بسبب مشاركة حماس فيها، ولذلك كان حافزه في شن حملة القمع ضد حماس في الضفة الغربية وشن حملة القصف على قطاع غزة سياسياً أكثر مما هو عسكري.
 
ولهذا السبب تريد حماس وقفاً لإطلاق النار يحقق أكثر من مجرد القبول بالأمر الواقع، ولا يرغبون فقط في آلية تعيد إليهم أسراهم ولكن آلية تضمن لهم وسائل تزويد غزة باحتياجاتها بشكل مستقل. يعلمون في حماس أنه لم يعد بمقدورهم الثقة بمصر والاعتماد عليها في ذلك. قد يعتبر الإسرائيليون مطلب فتح ميناء خاص بغزة نوعاً من الأحلام، إلا أن التواجد الفلسطيني على الحدود الأرضية بما يضمن بقاءها مفتوحة قد لا يكون في عالم الخيال.
 
يعزز من حماس ويقويها أنها وقفت لإسرائيل بالمرصاد. حينما بدأت الحرب كان أمام حماس واحد من خيارين، إما أن تقاتل الآن لرفع الحصار أو تقاتل فيما بعد، فاختارت الأول. حظي القرار بدعم شعبي كبير على المستوى الفلسطيني وعلى مستوى الشارع العربي، الذي يرى شعلة المقاومة ترفعها عالياً تارة أخرى فئة قليلة فقيرة ومحاصرة. ليست هذه هي المرة الأولى التي تثبت فيها غزة في هذا الصراع أنها عصية على القهر.
 
وبالتالي فإن الضغوط تتوالى على إسرائيل، وهي الجانب المتفوق عسكرياً تفوقاً هائلاً. يذكر أن سكان الأحياء الشمالية في غزة مثل بيت لاهيا تحدوا إلى حد كبير الرسائل التلقائية التي تأتيهم عبر مكالمات هاتفية ومن خلال المنشورات وأصروا على البقاء في بيوتهم، الأمر الذي سيحيل حتى الاجتياح المحدود لمناطق شمال غزة عملية دموية جداً.
 
لابد أن المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، والمعروفة تقليدياً بأنها براغماتية وأكثر واقعية، تحذر الآن نتنياهو من تبعات هذه العملية إذا ما أصر على الاستمرار فيها. قد لا تنجح هذه المؤسسة في ثنيه، وقد تسيء تقدير النفسية الإسرائيلية تماماً كما تسيء إسرائيل فهم العقل الفلسطيني. وأما حماس، فهي تتصرف بكل ثقة بأنها قادرة على الحصول على صفقة أفضل.

(ذي هافينغتون بوست)
لقراءة تقرير "عربي21" الذي أشار إليه الكاتب اضغط هنا
التعليقات (1)
برج الحوت
الجمعة، 18-07-2014 05:06 م
مقالاتك كلها رائعة رائعة رائعة بارك الله فيك