مقالات مختارة

غــزة تذكـرنا بحـلـف الفضـول...!

حسين الرواشدة
1300x600
1300x600
كتب حسين الرواشدة: لم تشهد أمتنا – حتى في جاهليتها – لحظة غاب فيها الضمير العام وتراجعت فيها المروءة والغيرة دفاعاً عن الكرامة والشرف، كما تشهد اليوم، فقبل عشرين عاماً من بداية الدعوة الإسلامية – مثلا – عقد كبار قريش فيما بينهم حلفاً (اسمه حلف الفضول) تعهدوا فيه ان يدافعوا عن كل مظلوم في مكة، وفي عصور الاستبداد وجدنا علماء حركهم الضمير العام دفاعا عن الدين أو الوطن، ووجدنا مثقفين دفعوا حرياتهم وحياتهم ثمناً لمقاومة الاستبداد والاستعمار، لكننا – اليوم – في عزّ “العدوان “ على غزة نفتقد مثل هذه الأصوات بعد ان داهمتنا فتنة الانقسام بين الديني والمدني، وفتنة “الإعلام” الذي احتل ساحاتنا كلها، وفتنة “الدويلات” المذهبة والحزبية التي تذكرنا بالدويلات التي نشأت بعد سقوط الدولة الأموية (23 دولة) وفتنة “العسكر” الذين اختطفوا “المشهد”، وكل هذه الفتن وغيرها أورثتنا “واقعاً” معقداً، أخطر ما فيه غياب العقل والضمير وتسيّد الخوف والجهل والانتقام.. وبروز “نجم” تجار السياسة والحروب وانطفاء نور “الحكمة” مع انزواء العقلاء والحكماء.. فلم يبق أمامنا إلا ان نقول “لطفك يا الله..”!!

لم نكن بحاجة للتذكير بحلف “الفضول” الذي تأسس في الجاهلية، قبل ان يوحدنا الإسلام في أمة وحضارة، لولا هذا المشهد الذي طالعناه فيما صدر من “مبادرات” عربية لوقف “العنف المتبادل” (تصور!) بين إسرائيل وعزة،،ولولا هذا “الانحطاط” السياسي والأخلاقي الذي عبر عنه خطاب عربي رسمي ساوى بين القاتل والضحية، والمحتل الغاشم والمدنيين الذي يعترضون لأسوأ عدوان، وانحاز فيه للعدو الذي يفترض أن يكون “مشتركاً” بدل ان ينحاز للشقيق الذي يعاني من الحرب والحصار من القريب والبعيد على حد سواء.

كان اكرم لهم وأخف علينا لو صمت هؤلاء الذين تدافعوا من اجل إشهار انتصار العدوان وهزيمة “المقاومة”، ذلك انه يمكن ان نقبل اعتذارهم واستقالتهم من دورهم على قاعدة “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها” لكنهم –للأسف- اسفروا عن مواقفهم المخجلة، وقدموا لنا درساً في “الفجور السياسي”، وتحرروا من القيم الإنسانية التي يفترض ان تحرك ضمائر “الناس” لا الأشقاء فقط، للدفاع عن المظلوم وإنصاف المبتلى وإغاثة المنكوب.

من نعم الله تعالى علينا ان الضمير الإنساني لا يتحرك وفق الاتجاهات التي تحددها “بوصلة” مواقفنا العربية واجتهاداتنا الدينية والسياسية ، خاصة على صعيد ما يحدث لإخواننا في فلسطين من جرائم على يد الاحتلال الإسرائيلي، ولو حصل -لا قدر الله - لكانت نهابة الإنسانية، ومن المفارقات المخجلة انه بينما يتحرك هذا  الضمير العالمي لإشهار المقاطعة ضد تل أبيب ومعاقبتها - ولو أدبيا وأخلاقيا - على ممارساتها الهمجية، لا نعدم في بلادنا العربية من يتسابق التواصل معها أو  إلى “مكافأتها” على عدوانها المستمر.

كيف يمكن للشعوب ان تطمئن على حاضرها ومستقبلها وهي تتابع فصول هذه المسرحية العبثية التي يتقافز الأبطال فيها على “مسرح” الشماتة، ويهربون إلى إدانة الضحية والتصفيق للجزار، ويغمضون عيونهم عن “أطفال” غزة الذين تتوزع أشلاؤهم في الشوارع، وعن “امنهم” القومي الذي اصبح مهدداً، وعن صرخات شعوبهم التي تهتف “للمقاومة”!

قد تخسر “غزة” المئات من خيرة أبنائها وأطفالها، وقد تهدم بيوت الآمنين فيها، وقد تعاني من الحصار والقصف والجوع والعطش، فهذه “الضريبة” تدفعها دفاعاً عن كراماتها وردّاً للعدوان الغاشم عليها، وأحياء لروح المقاومة التي يسارع البعض لإعلان “وفاتها”، لكن الخاسر الأكبر هو “إسرائيل” ومعها “الحلفاء” الذين كشفت هذه الحرب عن صورتهم الحقيقية، وحساباتهم السياسية الخاطئة، وخسارتهم –هنا- من الصعب ان تعوض، لأنهم يدافعون عن قضية “خاسرة” أصلا، ويتبنون مواقف تتعارض مع ابسط القيم الإنسانية ويحصدون كراهية ضمير كل منصف في هذا العالم.

عزة لن تخسر لأن “بوصلة” مقاومتها واضحة باتجاه العدوان الذي تتفق عليه الأمة، أو ما تبقى منها على قيد “الخجل”، فيما كل حروبنا وصراعاتنا  الأخرى تتجه نحو الشقيق الذي يذبح الشقيق، وغزة لن تخسر لان ما أبدعته في هذه الحرب يتجاوز كل ما الفناه وما توقعناه، فعلى امتداد الدولة المحتلة غطت صواريخ المقاومة وطائراتها المكان والزمان، وأثارت الرعب –لأول مرّة- في صدور المستوطنين، ودفعت نتنياهو إلى البحث عن مكان آمن في احد الملاجئ.

غزة لن تخسر، لأن صورتها في مرآة الذات العربية عكست “ضمير” الأمة التي تعرف من هو عدوها، وفتحت أمام الإنسان العربي نافذة أمل لطالما حلم بها، وأحيت لدى الذين خرجوا “للميادين” من اجل الحرية والكرامة “جذوة” التحرر التي حاول مهندسو إجهاض الثورات ان يطفئها ويخمدوها للأبد.

(عن الدستور الأردنية)
التعليقات (0)