قضايا وآراء

قصة المدعين العامين لمحكمة الجنايات الدولية مع حالة فلسطين!

محمود الحنفي
مطالبات بعزل مدعي عام المحكمة بسبب عدم القيام بواجباته- الأناضول
مطالبات بعزل مدعي عام المحكمة بسبب عدم القيام بواجباته- الأناضول
تُثار أسئلة كثيرة حول مصداقية المدعين العامين لمحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بحالة فلسطين، كما تثار أسئلة من أن محكمة الجنايات الدولية تستجيب للضغوط السياسية الغربية إذا تعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي أو الأزمة الروسية الأوكرانية، وأن الاستجابة للضمير المهني لا تزال ضعيفة جدا. وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر على حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال في قطاع غزة لم يقم المدعي العام الحالي كريم خان بفتح تحقيق فعال ذي جدوى.

وفي عام 2021، برز موقف كريم خان لأول مرة عندما رفض استكمال التحقيق في نشاط عملاء وجنود تابعين للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في أفغانستان. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد قدمت مساعداتها المالية واللوجستية في موضوع محكمة الجنايات الدولية الخاص بروسيا رغم أنها ليست طرفا في نظام روما الأساسي، وموّلت، مع دول غربية أخرى، مصاريف هذه المحكمة من خلال إنشاء صندوق خاص وتقديم مبان لاستخدامها من طرف فريق الادعاء. الولايات المتحدة والتي هي غير طرف أصبحت فعليا حاضرة في نظام روما الأساسي، وهو ما يثير تساؤلات سياسية وقانونية على حد سواء.

ومن الجدير ذكره أن المشاركة الفعلية للولايات المتحدة الأمريكية في قضية ملاحقة قادة روس جاءت بعد معارضتها الشديدة للمحكمة الجنائية الدولية مباشرة، والتي ذهبت إلى حد فرض عقوبات على بعض الفاعلين الرئيسيين في المحكمة في عام 2020 في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

عند البحث في الملف التراكمي يتبين أن المدّعين العامين المتعاقبين على المحكمة الجنائية الدولية (لويس مورينو-أوكامبو/ الأرجنتين، فاتو بنسودا/ غامبيا، كريم خان/ المملكة المتحدة، ومدة ولاية المدعي العام هي 9 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة) لم يميلوا أبدا إلى التحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة

وعند البحث في الملف التراكمي يتبين أن المدّعين العامين المتعاقبين على المحكمة الجنائية الدولية (لويس مورينو-أوكامبو/ الأرجنتين، فاتو بنسودا/ غامبيا، كريم خان/ المملكة المتحدة، ومدة ولاية المدعي العام هي 9 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة) لم يميلوا أبدا إلى التحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لقد رفض المدعي العام أوكامبو في عام 2009 طلب فلسطين إجراء تحقيق في عملية "الرصاص المصبوب" على غزة، مشكّكا في وضع فلسطين القانوني كدولة لها حق رفع دعوى، وكأن العائق القانوني للدولة يحول دون أن يفتح المدعي العام من تلقاء نفسه تحقيقا في جرائم موثقة.

وفي عام 2013، رفعت جزر القمر دعوى قضائية ضد دولة الاحتلال في المحكمة الجنائية الدولية بعد هجوم إسرائيل على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لغزة وترفع علم دولة جزر القمر، لكن المدعية العامة فاتو بنسودا رفضت مجددا إجراء تحقيق، مؤكدة أن الأدلة المقدمة غير كافية لإثبات وقوع جرائم تدخل في اختصاص المحكمة. هذا الموقف الذي اعترضت عليه جزر القمر لاقى أيضا انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان، معتبرة إياه انحرافا عن مسار العدالة. وواضح أن المدعية العامة بنسودا استجابت عمليا للضغوط السياسية من دول غربية خاصة الولايات المتحدة، لعدم فتح تحقيق في هذه القضية.

وفي عام 2018 استجابت محكمة الجنايات الدولية لمطلب فتح تحقيق حول الوضع الجاري في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد أن انضمت دولة فلسطين إلى نظام روما الأساسي عام 2015. ولكن مرة أخرى، لم يعتبر المدعي العام كريم خان الأمر عاجلا ولم يفتح تحقيقا سوى في عام 2021. وهكذا، بالرغم من تقارير عديدة أصدرتها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وكذلك من منظمات غير حكومية دولية ووطنية، غضت المحكمة الجنائية الدولية الطرف عن فلسطين لأكثر من عشر سنوات. ومع أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وشن إسرائيل حرب إبادة على سكان قطاع غزة وسقوط أكثر من 100 ألف شخص بين شهيد وجريح فضلا عن تدمير أكثر من 80 في المئة من المباني وخسائر بشرية ومادية لا يمكن حصرها، لا تزال وتيرة التحقيق في هذه الجرائم بطيئة جدا وغير فعالة، وتشير إلى أن ثمة قرارا ضمنيا بعدم فتح تحقيق جدي.

يتحمل مدّعو المحكمة المسؤولية الأخلاقية والمهنية عن ازدياد جرائم الاحتلال بحق السكان المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تسببت سياسة التراخي والتقاعس في تنامي أزمة الثقة بالعدالة الدولية وارتفاع مستوى الإحساس بإفلات المجرمين من المحاسبة والعقاب

ويتحمل مدّعو المحكمة المسؤولية الأخلاقية والمهنية عن ازدياد جرائم الاحتلال بحق السكان المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تسببت سياسة التراخي والتقاعس في تنامي أزمة الثقة بالعدالة الدولية وارتفاع مستوى الإحساس بإفلات المجرمين من المحاسبة والعقاب.

هذه السياسة المنهجية الموجهة تثير اليوم ردود فعل من بعض الدول الأطراف في نظام روما الأساسي وكذلك من محامين دوليين. وتظهر هذه التحفظات بوضوح في طلبات إجراء التحقيقات التي تقدمت بها خمس دول (جنوب أفريقيا وبنجلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي) رسميا للمدعي العام في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، لتمديد التحقيق ليشمل على وجه الخصوص جرائم الإبادة الجماعية في غزة، ثم اتخذت دولتان أخريان هما تشيلي والمكسيك نفس الخطوة في 18 كانون الثاني/ يناير 2024.

وحين قام المدعي العام كريم خان بزيارة دولة الاحتلال في الأول من كانون الأول/ ديسمبر عام 2023، رفضت ثلاث منظمات حقوقية فلسطينية لقاءه. وكان الأخير قد التقى بممثلين عن عائلات إسرائيلية مرتبطة بأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ومحاميهم، وامتنع عن تلبية دعوات مماثلة للاجتماع بالأسرى الفلسطينيين سبق أن وجهتها له هذه المنظمات، فضلا عن عدم قيامه بزيارة قطاع غزة ولقاء ممثلين عن ضحايا حرب الإبادة.

وقد تقدم أكثر من مئتي قانوني بمذكرة إلى جمعية الدول الأطراف لنظام روما الأساسي بشأن عدم قيام كريم خان بواجباته المهنية، وعدم فتح تحقيق فعال ومثمر ينتج عنها إصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليينن متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة.

ومن الجدير ذكره أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يتضمن حالة عزل المدعي العام؛ إذا ثبت أنه قد ارتكب سلوكا سيئا جسيما أو أخل إخلالا جسيما بواجباته طبقا لنظام المحكمة وطبقا للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات للمحكمة الجنائية الدولية. وتملك جمعية الدول أعضاء المحكمة اتخاذ التدابير المناسبة للعزل وفقا لولايتها المستمدة من المادة 112 من نظام روما الأساسي بشأن المحكمة الجنائية الدولية.
التعليقات (0)