هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: مقصد الوسطية وأثره في الفقه الإسلامي
الكاتب: فوزي غلاب
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2019.
عدد الصفحات: 287 صفحة
في الوقائع من حولنا أدلة كثيرة على عواقب التطرّف والتشدد في السياسة والاجتماع والفكر. وأخطر أنواع الغلوّ ما تعلّق بالحقل الديني لارتباطه بمختلف مجالات الحياة الجماعية والفردية، حتى باتت الأصوات تتعالى منادية بالاعتدال ونبذ الغلو، وحتى ظهر في الخطاب الديني مصطلح جديد هو الوسطية.
ولعلّ هذا السياق ما حفّز الباحث فوزي غلاب لتأليف أثره "مقصد الوسطية وأثره في الفقه الإسلامي" ولإدراجه ضمن علم المقاصد.
1 ـ المقاصد العامة والوسطية في التشريع الإسلامي
يعمل الباحث على تأصيل الوسطية تأصيلا مقاصديا. وحتى يوضّح مبحثه ويضيء ما غمض من إشكالات يفصل القول في مفهومي "المقاصد" و"الوسطية". فيعرّف المقاصد العامة للشريعة بكونها تحقيق المعنى الذي قصد إليه الشارع من تحكيم الشريعة. وهو مراعاته في جميع الأحكام الدينية وفي مختلف أبواب التشريع وقضايا الاجتهاد والإفتاء.
ويستند في هذا الحدّ إلى ما رسخ في متون المعاصرين في الخطاب الديني كأن يعرض قول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بكون "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة" أو تعريف أحمد الريسوني بكونها تلك "التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كلّ أبوابها أو في كثير منها". ويعرض تفريعات مباحثها، فيذكر أنّ البعض قد اختزلها في جلب المصالح ودرء المفاسد وأنّ بعضا آخر حصرها في الكليات الخمس وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ووسعها بعض ثالث لتشمل القيم السمحة كالصلاح والحق والرحمة والعدل والإحسان والمساواة والتيسير ورفع الحرج..
ثم ينقل عن الشيخ الطاهر بن عاشور تقسيمه لها إلى مقاصد قريبة، ممثلة في الكليات الخمس الكبرى المذكورة أعلاه وأخرى عالية على صلة بجلب المصالح ودرء المفاسد، فحفظ نظام الأمة يجلب لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد عنها. فيحفظ الدين ويحمي عقول أبنائها من الانحراف وهذان من أعلى المقاصد وأرفعها.
أما الوسطية خاصية من خصائص التشريع الإسلامي شأنها شأن الشمول والعموم والربانية والواقعية. ولتأصيلها ينطلق من مدخل لساني معجمي فيتقصى الحقول الدلالية المختلفة للمادة و ـ س ـ ط. ويجدها لا تتحرّك كلّها في دائرة العدل والفضل والمكانة العلية والنفاسة والعزّة. ويجد في الاستعمال القرآني والنبوي دعما لهذا التخريج. فالآيات الخمسة، وفق المفسرين، والأحاديث النبوية تستعمل العبارة للدلالة على العدل والخيار والأفضل والأجود..
ولم تتخذ الوسطية دلالة اصطلاحية في استعمالات القدماء، ولكنها أصبحت سارية اليوم في كتابات الفقهاء المعاصرين. فتستعمل بدلالات متباعدة. فقد ورد في تعريف محمد الطاهر بن عاشور "التوسط والاعتدال الذي هو الكمال". وعرّفها فريد عبد القادر بكونها "مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة والخيرية للقيام بالشهادة وإقامة الحجة عليهم".
أما يوسف القرضاوي فيستعملها بمعنى "التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين" ويستعملها محمد عمارة بمعنى "الحق بين باطلين والعدل بين ظلمين" وهي عند حمد قطب "توازن بين طاقة الجسم وطاقة العقل وطاقة الروح".
ورغم عسر الوصول إلى مفهوم جامع في هذه الاستعمالات يلاحظ أنها تنزع إلى دلالات العدل والبينية ومجانبة السبل المنحرفة. فالسنة النبوية تؤكد الوسطية في أبسط التفاصيل. ومما أخرج ابن ماجه أن النبي "مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال: نعم وان كنت على نهر جار".
ومن ثمة دعا التشريع الإسلامي إلى عدم الإسراف اجتنابا للمفسدة كتبديد المال وتبذيره وعدم الإقتار ونقل عن الطبري قوله "إنّ الله لا يحب المعدّين حدّه في حلال أو حرام".
وليثبت أنها مطلب شرعي، يعود إلى النصّ القرآني. فقد ورد في الآية (153) من سورة الأنعام: أَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ." ويورد عن الشاطبي في تفصيله للصراط المستقيم ضمن أثره "الموافقات" أنّ الشريعة تسير على طريق وسط لا انحراف فيه ولا ميل ولا إفراط ولا تفريط. فيربطها بالاعتدال والبعد عن طرفي المواقف التي تنتهي إلى التشدد عند المبالغة في الحزم أو التقصير عند المبالغة في التيسير. ويجعل من خرج عن ذلك خارجا عن قصد الشارع.
2 ـ تعريف الباحث للوسطية
تمثل الأحكام المستندة إلى الوسطية روح الشريعة لأنها تجعلها متوافقة مع الفطرة الإنسانية التي تؤخذ بعين الاعتبار طلبا للتيسير على المكلفين ورفعا للحرج عنهم. لذلك جاء في الآية (143) من سورة البقرة "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ".
فلما كان التوسط مقصدا من مقاصد الشريعة وغاية من غاياتها، لا يجب أن يكون حجة لمخالفة أحكامه الأحكام الثابتة المنصوص عليها. ولما كانت الشريعة موجهة إلى كافة الناس فيجب أن ترد أحكام التوسط جريا على وجه الاطراد أو الأغلبية وإلا تتحوّل مراعاة الخيرية إلى مطلق التساهل.
وتنتهي به هذه المقدمات إلى نتيجتين متلازمتين: فالتوسط ـ "هو المنهج الذي تواترت عليه النصوص من القرآن والسنة على مدحه والثناء عليه، ودعت المكلفين إلى التمسك به، فإنه لا محالة مصلحة معتبرة قصد إليها الشارع الحكيم، وما من شكّ أنّ الميل إلى أحد طرفيه سواء بالإفراط أو التفريط موجب للذمّ لما يحققه من مضرة ومفسدة. وهكذا يتبيّن من كل ما تقدّم أنّ الوسطية، فضلا عن كونها خاصية من خصائص التشريع الإسلامي، مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية." ص 47.
ـ يعرف بأدلة مستقاة من الشّرع، لا بتقديرات ناشئة عن الميل الشخصي والهوى. فيظل الفقهاء بذلك مرجع النظر والطرف الراسم للحدود.
ويتقصى الباحث مختلف وجوه اعتماد عبارة التوسط. وقارنها مع أضدادها في الاستعمال كالغلو ومجاوزة الحد الشرعي المعتاد بالزيادة بعنوان الذود عنه ونصرة شريعته أو الإفراط الذي يعني الإسراف وتجاوز القدر أو التفريط الذي يعني التقصير والتضييع. فجمع ما يمكن أن نعدّه قاعدة بيانات، اقترح انطلاقا منها تعريفه الخاص. فالوسطية عنده هي "الالتزام بصراط الله المستقيم والثبات عليه والحذر من الميل إلى جانبيه بالإفراط أو التفريط" ص 72.
3 ـ في علاقة الوسطية بالفطرة
تراعي أحكام الشريعة ومقاصدها الفطرة الإنسانية. فعدالة المحاسبة عند التقصير، تجعلها سهلة في متناول المكلّفين، قائمة على السماحة ورفع الحرج بالنظر إلى رحمة الله بالعباد. والفطرة هي مجموع الاستعدادات والميول والغرائز التي تولد مع الإنسان دون إن يكون له دخل في إيجادها. وهي الهيأة الخلقية الأولى التي خلق الله عليها النوع الإنساني وجبله عليها جسدا وعقلا وروحا، أو هي باختصار محمد الطاهر بن عاشور ودقته"النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق". وجبلة الإنسان ترفض الشدة وتنفر من التعنت وتقتضي التوسّط. لذلك اعتبرت أسا من أسس الشريعة.
ينقل الباحث عن محمد الطاهر بن عاشور في "مقاصد الشريعة الإسلامية" قوله "وقد أراد الله أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة دائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا، ولا يكون ذلك إلاّ إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس بأن فيها إراحة في حال خويصتها ومجتمعها".
وعليه، فلا تكليف إلا بما تتحمله الذات البشرية من جهة قدراتها الجسدية وحاجاتها الروحية. فلا يشق عليها ولا تعجز عن الإيفاء به. فـ"ـكل من نأى عن الاعتدال والوسطية فمال إلى الشدة والتنطع نأى عن الفطرة السليمة التي خلقها الله عليها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى من انغمس في الشهوات واتبع هوى نفسه". ويبحث في مختلف مظاهر الوجود من حولنا عن قرائن تؤكد مدى الحاجة إليها. فيجد الكون متوازنا وبجد حركته مقدرة بحسابات دقيقة قائمة على التقابل بين الليل والنهار أو الظلام والنور أو البرد والحرّ أو البحر واليابسة إلخ.. فكل ابتعاد عن الوسطية يخلّ بتوازنه ويفسد تناسقه ويهدد الحياة فيه. أما الدليل الثاني فيجده في سيرة السلف سواء في عمل العلماء الذين كانوا يسعون إلى التوسط في سن الأحكام أو في سيرة رجال السياسة المشهود لهم بالاعتدال في اتخاذ القرارات.
4 ـ ضوابط الوسطية في الأحكام
حتى لا يكون الغلو والتطرف مدخلا للتفريط في الدين و"حتى لا يظل مطية لأصحاب الأهواء وأدعياء التخفيف بحجة سماحة الدين ووسطيته". يربطه بحملة من الشروط كالخيرية والاستقامة والبينية والعدل والحكمة. ويجد شرط الخيرية في منطوق الآية (110) من آل عمران "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" ويجعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله أهم شروطها ويرفعها إلى مستوى الواجب على المؤمن.
ويجد شرط الالتزام بالصراط المستقيم في كثرة الآيات التي تربط الإيمان بالاستقامة ويعرفها نقلا عن القرطبي بكونها "الاستمرار في جهة واحدة، من غير أخذ في جهة اليمين أو الشمال". وليست هذه الجهة غير الالتزام بالشرع أما شرط البينية ففي وقوع الشيء المراد بين طرفين قصيين. وضمن هذه الشروط تحقق الوسطية والعدل في إطار الحكمة الشرعية التي مدارها على وضع الشيء موضعه. ولكن ما ضوابط هذه الوسطية وما طرق إدراكها؟
لا تخضع الوسطية، وفق الباحث، لمنطق رياضي بحت حتى ننشدها بالاستنباط العقلي المحض. وإنما تعرف بالشرع والعوائد (العرف) وما يشهد به معظم العقلاء. فلما كان التوسط مقصدا من مقاصد الشريعة وغاية من غاياتها، لا يجب أن يكون حجة لمخالفة أحكامه الأحكام الثابتة المنصوص عليها. ولما كانت الشريعة موجهة إلى كافة الناس فيجب أن ترد أحكام التوسط جريا على وجه الاطراد أو الأغلبية وإلا تتحوّل مراعاة الخيرية إلى مطلق التساهل.
وعليه، و"حتى لا يختلط الحلال بالحرام" لا بدّ أن تكون الموازنة دقيقة خالية من كلّ تلفيق أو توفيق يناهضان جوهر الشريعة. فالمقاصد تظل ربانية، ويُقصد بالعبارة كونها مُنزلةً من الله، وكون التعرف عليها يتم بموجب أدلة من القرآن واضحة الدلالة قطعية الثبوت أو من خلال السنة الصحيحة الواردة في أقوال النبي أو أفعاله: فقوله "إنّ الدين يسر" أو "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسّرين" محدد نصي لمقصد اليسر.