قضايا وآراء

اغتيال فقهاء.. هل يؤسس لمعادلة جديدة؟

1300x600
أخطر ما في اغتيال مازن فقهاء في غزة لا يأتي من فقد رجل مجاهد كان مزعجاً لدوائر الاحتلال الأمنية، بل من أن الطريقة التي نفذت بها العملية قد تفتح الأبواب لمعادلة جديدة يحاول الاحتلال فرضها في التعامل مع فصائل المقاومة في غزة. هذه المعادلة تقول إن أيدي الأجهزة الأمنية الصهيونية قادرة على الضرب في أي مكان وإن في قلب غزة الحصينة، ليس في أوقات التصعيد وحسب بل في أوقات التهدئة أيضاً وبطريقة أمنية وليس عسكرية بحيث لا تستجلب هذه الطريقة ردود فعل عسكرية من المقاومة قد لا تفضلها حكومة الاحتلال دائماً.

بصمات الأمن الصهيوني واضحة بجلاء في جريمة اغتيال الشهيد مازن فقهاء؛ التسلل في جنح الظلام، الاغتيال من مسافة صفر بمسدس كاتم للصوت، إطلاق النار باحترافية تجاه الرأس والصدر، والانسحاب دون ضجيج ودون ترك أثر، وهي أمارات تعيد إلى الأذهان مئات عمليات الاغتيال التي نفذها جهاز الموساد الصهيوني خلال عقود الصراع في دول العالم المختلفة، أضف إلى هذه الأمارات أن الشهيد فقهاء متهم من قبل الاحتلال بالسعي لتأسيس خلايا عسكرية في الضفة وقد سبق نشر اسمه ضمن المطلوبين في وسائل الإعلام العبرية، كما أن مسؤولي الاحتلال لم ينفوا المسؤولية عن الجريمة رغم اتهامات المقاومة الفلسطينية.

الجديد في هذه الجريمة أنها نفذت في مدينة غزة التي تتسم المواجهة فيها بين المقاومة ودولة الاحتلال بالطابع العسكري، إذ كان جيش الاحتلال يستهدف المقاومين بالاغتيال المباشر بالطائرات غالباً معلناً بوضوح عن مسؤوليته، وكانت المقاومة بدورها ترد بطرق عسكرية عن طريق تنفيذ عمليات ضد الجنود أو إطلاق صواريخ، أما في الاغتيال الأمني فإن الاحتلال يتعمد المواربة في إظهار مسؤوليته عن العملية، فهو من جهة إن أعلن صراحةً عن مسئوليته فإن هذا الإعلان سيستجلب جولةً جديدةً من المواجهة وسيفرض هذا الإعلان على فصائل المقاومة رداً بطريقة عسكرية، ومن جهة أخرى فهو يتعمد أيضاً عدم النفي القاطع، لأنه يستفيد من حالة الغموض في ترك انطباع في عقول الفلسطينيين بقدرته على الردع وقد يتعمد في مرحلة لاحقة بعد أن تهدأ حدة الغضب إلى تسريب تلميحات بمسؤوليته عن الجريمة ليحقق هدفاً مزدوجاً بتثبيت قوته الضاربة في عقول الفلسطينيين ورفع أرصدة سياسييه في المجتمع الصهيوني.  

من زاوية فلسطينية جاءت هذه العملية مفاجئةً لأنها شكلت خروجاً عن قواعد اللعبة التي عهدتها المقاومة، هذه اللعبة تقوم على تهدئة ميدانية متبادلة بين قطاع غزة وجيش الاحتلال، تهدئة لا تخلو من التجاوزات أحياناً، لكن في المجمل يدرك كل طرف بأن أي مبالغة في التصعيد العسكري قد تفضي إلى اندلاع مواجهة شاملة يجد الفلسطينيون فيها أنفسهم تحت عدوان تدميري يقتضي منهم دفع ثمن باهظ من الضحايا والدمار، وفي المقابل لا تتحمس دولة الاحتلال للمواجهة العسكرية مع قطاع غزة في أي وقت لأن هذه المواجهات تربك الجبهة الداخلية وتوقع خسائر في الجيش وقد تؤدي إلى إخفاقات يحاسب عليها قادة الجيش والحكومة لاحقاً.

أدى ركون المقاومة إلى هذه المعادلة إلى استشعارها الأمن في أوقات التهدئة، وهو ما ذكرته ناهد عصيدة زوجة الشهيد مازن فقهاء بأن زوجها كان يشعر بالأمن بسبب إقامته في غزة، وأنها كانت تتوقع فقدانه في وقت الحرب وليس في وقت التهدئة، من جهة أخرى فإن الطابع العسكري للمواجهة بين المقاومة وجيش الاحتلال دفع بالمقاومة إلى بناء فلسفتها على إنشاء قواعد ثابتة لها في قطاع غزة، فكرست جهودها وأموالها في بناء الأنفاق وتجهيز منصات إطلاق الصواريخ بل وإقامة مواقع مراقبة عسكرية بالقرب من الخط الفاصل مع جيش الاحتلال.

هذه الطريقة تناسب المعارك بين الجيوش النظامية المتكافئة في التجهيز والعتاد، لكنها لا تلائم واقع مقاومة شعبية في شريط جغرافي ضيق مكشوفة لطائرات العدو ولرصد أجهزته الاستخبارية، في هذا الواقع تستغرق المقاومة شهوراً طويلةً في إعداد منشأة ثابتة ثم في ساعة تصعيد واحدة تأتي طائرات الاحتلال فتقصفها فتبدد هذه الجهود أدراج الرياح ثم يعود الهدوء سيد الموقف.

ثمة أضرار أخرى لعسكرة المقاومة في قطاع غزة، وما أقصده بالعسكرة ليس استعمال أدوات عسكرية في المقاومة بل تحويل طابع المواجهة إلى حروب تشبه الحروب بين الجيوش النظامية بدل كونها مقاومةً شعبيةً مستمرةً، فواقع المواجهة بين طرفين نظاميين يفرض قيوداً سياسيةً على الطرف الأضعف ويحد من قدرته على المناورة، و الحروب تختلف عن المقاومة الشعبية في أنه لا يمكن خوضها كل يوم ولا حتى كل عام، لذلك فإن المقاومة الفلسطينية في غزة باتت تجد نفسها مقيدةً عن الانطلاق والفعل الإبداعي لمواجهة جرائم الاحتلال المطردة، ونجحت حكومة الاحتلال في تكريس معادلة بأن أي رد عسكري ينطلق من غزة سيقود إلى حرب عدوانية شاملة، وبذلك وجدت المقاومة نفسها إزاء ثنائية مزعجة: إما مواجهة الاعتداءات الصهيونية بتصعيد يؤدي إلى حرب تدميرية، وإما ضبط النفس والاكتفاء بتحذيرات عامة، وحين يبدع الاحتلال طريقةً جديدةً في حربه الاستخبارية كما في اغتيال فقهاء، فإن مقيدات هذه المعادلة تصير أكثر جلاءً ووضوحاً وتكتشف المقاومة محدودية خياراتها التقليدية.

لكن جريمة اغتيال الشهيد مازن فقهاء ليست شراً مطلقاً: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"، وكما يقول جلال الدين الرومي إن كل ما يحدث في هذه الحياة يهدف إلى خدمتنا وصناعة وعينا، والخير الكامن في هذه الحادثة أنها قد تؤدي إلى إنهاء حالة الطمأنينة المضرة التي كانت المقاومة عليها في قطاع غزة، وأن تستفز وعيها في إعادة فهم طبيعة المواجهة مع دولة الاحتلال التي لا ينبغي أن تقوم على القواعد الثابتة بل على الأدوات المرنة الإبداعية والفعل المستتر، ففي المواجهة بين حركة مقاومة محدودة الإمكانات ومحاصرة وبين دولة مدججة بالسلاح والإمكانيات فإن الوسائل الأمنية أنفع للمقاومين من المواجهة العسكرية المكشوفة، وقد تنجح عملية فردية إبداعية في ضرب الاحتلال في العمق أكثر من قدرة ترسانة من الصواريخ والأنفاق.

هذه المواجهة الأمنية تقتضي مغادرة حيز قطاع غزة والسعي لتفعيل النشاط المقاوم في بقية فلسطين، وهو ما سيحمل فائدةً مزدوجةً؛ تخفيف الثقل الأمني والعسكري الموجه ضد قطاع غزة، وتوسيع ميدان المواجهة ضد دولة الاحتلال لإعادة القضية إلى عنوانها الصحيح: مواجهة شعبية شاملة بين شعب يرزح تحت الاحتلال وبين القوة الغاشمة التي تحتله، وليس مواجهةً عسكريةً بين دولة إسرائيل وبين كيان جغرافي ضيق اسمه قطاع غزة.

إذا التقطت المقاومة الفلسطينية الدرس وغادرت تفكير الجيوش النظامية والقواعد الثابتة إلى ديناميكيا المقاومة الشعبية والعمليات الفردية النوعية فستكتشف دولة الاحتلال لاحقاً أنها أهدت أعداءها هديةً ثمينةً باغتيال الشهيد مازن فقهاء وأنها فتحت على نفسها باباً كانت في غنىً عن فتحه.

هذا المربع الذي يريد الاحتلال جرنا إليه يخدمنا في المدى الاستراتيجي أكثر مما يخدم دولة الاحتلال، ومن شأنه أن يجعل المعركة أكثر وضوحاً وأن يسفر عن وجه أكثر عدوانيةً للاحتلال وأن يستنفر الشعور الوطني الفلسطيني الذي أضعفته سنوات الركود وأن يجعل انطلاقتنا أكثر حافزيةً ووساءلنا أكثر مرونةً وأداءنا أشد فاعليةً.