قضايا وآراء

التضخم والبطالة في مصر بين الانتحار والانفجار

1300x600
كشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء السبت الماضي عن ارتفاع معدل زيادة أسعار المستهلكين لمستوى قياسي ليبلغ 29.6% سنويا في يناير الماضي، مقارنة بمستواه في ديسمبر حين سجل 24.3% سنويا. وقد جاء هذا الارتفاع مدفوعا بارتفاع كبير في تضخم أسعار الطعام والشراب، حيث واصل معدل زيادة أسعار الطعام والشراب قفزاته بنسبة 38.6% سنويا في يناير، مقارنة بـ 29.3% في ديسمبر الماضي.

وهذا الارتفاع في معدل التضخم بصورة غير مسبوقة منذ العام 1986م جاء نتيجة طبيعية للسياسة النقدية والمالية التي انبطحت لتعليمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي من خلالها تم رفع شعار الحماية الاجتماعية ظاهرا والفتك به واقعا، فهذا الارتفاع نتاج طبيعي لتعويم الجنيه المصري وانخفاض قيمته بأكثر من 100% وتطبيق ضريبة القيمة المضافة ، ورفع البنك المركزي لسعر الإقراض والخصم أكثر من مرة؛ بدعوى معالجة التضخم في بلد يحيط بها الانكماش من كل جانب، وبات الاستثمار شبه متوقف إلا على شركة كبيرة ابتلعت مصر، هي شركة العسكر.

إن ارتفاع معدل التضخم بهذه الصورة يمثل أمرا كارثيا على المواطن والاقتصاد المصري، لاسيما في ظل تسريح العمالة المصرية في الخليج والتخلص منها في الأردن باسم توفيق أوضاعها، وغلق الأبواب أمامها جبرا في ليبيا والعراق نتيجة لظروف عدم الاستقرار فيهما. وهذا يهدد بعودة نسبة لا يستهان بها من تلك العمالة، وقد قدر المتحدث الرسمي باسم وزارة القوي العاملة عدد العمالة المصرية بالخارج بنحو 5 ملايين عامل يتركز منهم نحو 2 مليون عامل بالسعودية وحدها، وهو ما يعني وقوع الاقتصاد المصري في معضلتي التضخم والبطالة معا، والدخول في ركود تضخمي لن يزيده التسابق في التداين الخارجي والداخلي سوى امتداد النفق الاقتصادي المظلم إلى نهاية لن تبقي ولن تذر.

إن مخاطر التضخم وارتفاعه بهذه الصورة يؤدي إلى التأثير سلبا على الدخول بانخفاض قيمتها الحقيقية وقوتها الشرائية، فضلا عن تآكل المدخرات لاسيما في ظل تجاوز معدل التضخم معدل العوائد على تلك المدخرات، إضافة إلى التأثير سلبا على القطاع الخارجي نتيجة ارتفاع أسعار الصادرات من ناحيتين؛ من ناحية التضخم ومن ناحية ارتفاع سعر المكونات المستوردة لتلك الصادرات في ظل ارتفاع سعر الدولار. 
كما أن ارتفاع معدل التضخم يحول دون تحقيق أي تنمية اقتصادية حقيقية –هذا بافتراض وجود إرادة لتحقيق تلك التنمية-، حيث يعمل التضخم على وجود حالة من عدم التأكد Uncertainty والضبابية حول الوضع الاقتصادي في الدولة ومستقبلها الاقتصادي، وما يترتب على ذلك من هروب الاستثمارات لاسيما الاستثمارات الأجنبية، وفقدان عوامل الجذب لها أو السعي لتوطينها، وهو ما ينعكس سلبا على الإنتاج والصادرات، بل وعزوف المدخرين عن الادخار بالعملة المحلية والاتجاه غالبا إلى الدولرة، مما يزيد الضغط على الدولار وارتفاع سعره، ومن ثم تحقيق مزيد من التضخم المستورد لارتباط جل السلع المنتجة، وكذلك الضرورية في مصر بالاستيراد من الخارج. 

كما أن التضخم يجعل من الاستثمار العقاري ملاذا آمنا، وهو ما يزيد من سعره ويزيد من معدلات التضخم من ناحية أخرى، إضافة إلى ما ينتج عن التضخم من انخفاض معدل الإنتاجية نتيجة لانخفاض الدخول وعدم قدرتها على تلبية حاجات العاملين.

إن الوضع الاقتصادي المصري لا يبشر بخير قادم بقدر ما ينذر بالانتقال من السيئ إلى الأسوأ، في ظل نظام تمادى في التفكك الاجتماعي وترسيخ الطبقية، واتخذ الديون ملاذا، وإدارة الفساد المنظم طريقا، وعسكرة اقتصاد مصر بقوة السلاح منهجا، ولم يبال بالركود التضخمي الذي صنعه بسياساته المدمرة، ليجمع بين البطالة والغلاء الذي ليس من ورائه إلا الانتحار أو الانفجار.