مقالات مختارة

استراتيجية أمريكية جديدة للشرق الأوسط

1300x600
بدأ الانقلاب على سياسات الرئيس السابق باراك أوباما التي لبّت الأولويات الإيرانية، النووية والإقليمية والداخلية، وانطلقت إدارة دونالد ترامب إلى نقلة نوعية في العلاقات مع السعودية ومصر، تعيدها إلى التحالفات التقليدية كأساس للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، التي تشمل أيضا دولة الإمارات والأردن والمغرب. ما حصلت عليه طهران من اندفاع عارم لواشنطن في عهد أوباما في إطار الاتفاق النووي وصياغة علاقة ثنائية انقلبت على تاريخ العداء لثلاثين سنة، لن يُطاح به تلقائيا في عهد ترامب، إلا أن الإدارة الجديدة ستتمسك بحذافير الاتفاق النووي، وستضع تنفيذ إيران له تحت المجهر وقيد المحاسبة. ثم إنها ستسكب الماء البارد على الدفء الذي أرادته إدارة أوباما في العلاقات الأمريكية - الإيرانية.
المطلب الثاني الذي لبّته إدارة أوباما تعلَّق بما زعمته طهران أنه حقّها، وهو دورها الإقليمي بأبعد من حدودها، مستخدمة الاتفاق النووي وسيلة ابتزاز وتخويف منعا لاستخدام واشنطن أدواتها لحجب الطموحات التوسعية الإيرانية في الدول العربية؛ من العراق إلى سوريا إلى البحرين ولبنان وصولا إلى اليمن. منذ أن تسلم الرئيس دونالد ترامب السلطة، بدأت أركان إدارته صياغة استراتيجية التصدّي ليس فقط للمشروع الإيراني العابر لهذه الدول، وإنما - بالمقدار نفسه من الأهمية - التصدي لأهم ركيزة في هذا المشروع، وهو مبدأ إنشاء القوات العسكرية الموازية لجيش الدولة على نسق "الحرس الثوري"، في إيران و "الحشد الشعبي" في العراق و "حزب الله" في لبنان وشتى المليشيات التابعة لـ "الحرس الثوري" و "فيلق القدس" العاملة في سوريا. هذا تحوّل جذري لافت في السياسة الأمريكية الجديدة. ثالثا، ما حصلت عليه إيران من باراك أوباما هو إقراره شخصيا بشرعية النظام الذي حوّل إيران إلى "ثيوقراطية"، وهذا انطوى ضمنا على التعهد بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، أي، عدم دعم أي معارضة إيرانية مهما كان السبب. أركان إدارة ترامب لا يتحدثون بلغة الإطاحة بالنظام الإيراني، لكنهم لا يتعهدون باحترام شرعية النظام الذي أسرعوا إلى القول بأنه أكبر مصدّر للإرهاب العالمي. كل هذا هو طلاق مع القرار الأمريكي الاستراتيجي نحو إيران كما صاغته إدارة أوباما. إذا أُضيفت ناحية استعادة علاقات التحالف الاستراتيجي مع الدول الخليجية ومصر، بعدما كانت وصلت إلى مشارف العداء مع أوباما، يكون واضحا أن دونالد ترامب يضع استراتيجية متكاملة لمنطقة الشرق الأوسط، اللغز فيها هو كيفية صوغها في نسيج العلاقة التي تعهَّد بإقامتها مع الرئيس فلاديمير بوتين، والتي يريدها غير اعتيادية.

الدول الخليجية مرتاحة جدا إلى أن أمن الخليج عاد ليصبح التزاما أمريكياً بامتياز. ما قاله ترامب في أثناء الحملة الانتخابية في شأن تسديد دول الخليج كلفة ما تقدمه أمريكا أمنيا، أمر بديهي تفهمه الدول الخليجية ولا تحتّج عليه، وهو كان دائما محوريا وضمن أسس العلاقات الأمنية الأمريكية - الخليجية. استعادة الثقة الخليجية بالتعهدات الأمنية الأمريكية لا ثمن لها عند دول الخليج، لا سيما بعدما اهتزت العلاقة والثقة جذريا بينها وبين باراك أوباما، ليس فقط بسبب الود الأمريكي - الإيراني، وإنما أيضا نتيجة انعكاس البرود الأمريكي حينذاك على الشعور بالأمان والاعتماد على الضمانات الأمنية.

شعرت الدول الخليجية أن أوباما تعمَّد تهميشها واستبعادها عن الحديث الإقليمي، بل أراد تحجيمها وإذلالها فيما كان في الوقت ذاته يدلّل إيران ويُطلِق عنانها في الجغرافيا العربية، عبر تدخّلها في اليمن ودعمها للحوثيين هناك. شعرت أيضا أن باراك أوباما قرر أن يدعم الشيعة ضد السنّة في الصراع المذهبي بينهما، وذلك بدعمه طموحات إيران الإقليمية، وليس فقط نتيجة اتفاق نووي أعطى طهران حق امتلاك القرارات النووية كمبدأ، ونسف نظام منع انتشار الأسلحة النووية، واشترى منها تجميد النشاطات النووية غير المدنية لمجرد عشر سنوات.

إنما الاستغراب الخليجي العربي للاندفاع الأمريكي نحو تأمين مصالح إيران على حساب المصالح العربية لم يبدأ مع باراك أوباما ،وإنما مع الرئيس الذي سبقه جورج دبليو بوش. حرب العراق أسفرت عن تقديم العراق هدية إلى إيران في الرأي الخليجي العربي. استهجنوا الأمر كثيرا، لا سيما أن صدام حسين في حربه مع إيران في عقد الثمانينيات، نال دعم الولايات المتحدة والدول الخليجية العربية معا، عندئذ كان الموقف الأمريكي مع السُنَّة وضد الشيعة في المعادلة المذهبية إلى حين اتخاذ قرار إسقاط صدام حسين. أتى عهد أوباما ليرسّخ التغيير في السياسة الأمريكية، الذي صنعه جورج دبليو بوش في المعادلة المذهبية. وفي عهد أوباما اشتعلت الحرب المذهبية كما لم تشتعل من قبل في التاريخ الحديث.

اليوم، يأتي دونالد ترامب بسياسة تفيد بجديد في تلك المعادلة. لعل في ذهن السياسة الأمريكية البعيدة المدى، استعادة بعض التوازن نحو السُنَّة والشيعة لإخماد الحرائق، ومن أجل استيعاب العداء وكي يكون في الإمكان إلحاق الهزيمة النهائية بالراديكالية الإسلامية بكل أوجهها، إن كانت على صعيد "داعش" و "القاعدة" و "النصرة»" وأخواتها من الراديكالية السنّية الإرهابية المدمرة، أو على صعيد المليشيات الشيعية التي صنعتها إيران في إطار مشروعها الإقليمي. اللافت إلى أن روسيا بدورها تدور في فلك مشابه، في هذه الحقبة، بالذات في سوريا حيث تختلف مع إيران، حليفها الميداني الاستراتيجي هناك، في شأن مصير المليشيات وأدوارها بعد وقف النار.

أولى محطات مراجعة إدارة ترامب سياساتها نحو إيران، تقع في استراتيجيتها الجديدة لمحاربة "داعش" في العراق بالدرجة الأولى. ما يقوله المدافعون عن سياسة أوباما هو أنه كان لا بد من الاعتماد على نفوذ إيران وتدخلها الميداني في العراق؛ لأن الهدف الأهم والأكبر هو القضاء على "داعش". إيران قدَّمت نفسها على أنها غير قابلة للاستغناء عنها في تلك الحرب، وعكفت على صنع "الحشد الشعبي" كمليشيا شيعية للقيام بالمهمة. ما يقوله الآن المقربون من صنع القرار في إدارة ترامب، هو أن المصلحة الأمريكية لا تتوافق مع مشروع إيران بأن تحتل عمليا الأراضي التي يقوم التحالف الدولي بإخلائها من "داعش"، من ثم تُنبت تلك الجغرافيا تنظيما إرهابيا يضاعف إرهاب "داعش" تستعر على ضوئه تلك الحرب المذهبية، التي تولّد أجيالا من الراديكالية الإسلامية، السنّية والشيعية على السواء.

لهذا يكثر الحديث عن استراتيجيات جديدة لمحاربة "داعش" في الموصل في العراق، وكذلك في الرقة في سوريا، لا سيما أن "التحالف الدولي" بقيادة أمريكية يقوم فعليا باسترجاع الأراضي التي وقعت تحت سيطرة "داعش"، وهو ليس بالمقدار نفسه من الحاجة إلى إيران لإتمام هذه المهمة. هذا تحوّل مهم في استراتيجيات إدارة ترامب يختلف جذريا عن استراتيجيات إدارة أوباما، دلالاته بعيدة المدى.

هذا التطور تستكمله مواقف مثيرة لإدارة ترامب تتوافق مع تعهدها بمحاربة الراديكالية الشيعية وليس فقط السنيّة. إذ إنها تحدثت عن إدراج "الحرس الثوري" الإيراني وتنظيم "الإخوان المسلمين" السُنّي على قائمة التنظيمات الإرهابية. هذه خطوة ضخمة قد لا تتمكن إدارة ترامب من اتخاذها دفعة واحدة، أولا، لأن "الحرس الثوري" هو جزء من النظام في طهران، وثانيا، لأن "الإخوان المسلمين" هم جزء من المعادلة الصعبة في تونس والأردن والكويت وبالذات تركيا. لذلك، يتوقع المقرّبون من صنع القرار في واشنطن خطوات تدريجية قد تبدأ بـ "فيلق القدس" الموجود في العراق وسوريا بقيادة قاسم سليماني بإجراءات تتعدى التصنيف الإرهابي. ولهذا الحديث شق في المحادثات الأمريكية - الروسية. أما لجهة "الإخوان المسلمين"، فستتمثل في الأجنحة العسكرية للتنظيم ضمن الخطوات التدريجية.

اللاعبان المهمان في مسألة "الإخوان المسلمين" هما مصر وسوريا. وهنا أيضا للحديث الأمريكي - الروسي أهمية، لا سيما أن العلاقات المصرية - التركية تتأرجح على موازين اختلافهما جذريا في شأن "الإخوان المسلمين". مصر تقرّ بعدائها القاطع لهذا التنظيم. تركيا تنفي تبنّي هذا التنظيم ضمن مشروعها الإقليمي الذي اضطرت إلى تقليصه بعد المحاولة الانقلابية، نظرا إلى حاجتها القاطعة إلى روسيا التي عارضت دوما صعود الإسلاميين إلى السلطة.

تقاطع المصالح والأحاديث الإقليمية والدولية مثير في هذه المرحلة المصيرية لمنطقة الشرق الأوسط. المنطقة العربية تعبت من الحروب عبرها وبفعلها؛ لأنها ميدان الحروب والمآسي بالذات في العراق وسوريا واليمن وليبيا. بعضها يتطلع إلى دونالد ترامب لإعادة التوازن بدلا من ذلك الاختلال في الموازين الإقليمية العربية - الإيرانية – التركية. ويخشى أن تكون إسرائيل الرابح الأكبر - بصفتها الحليف الأهم للولايات المتحدة - في معادلة الموازين. البعض الآخر يخاف أن تؤدي سياسة التحدي والتصدي إلى ردود فعل إيرانية تقود إلى مواجهة عسكرية، فالأكثرية العربية تريد احتواء إيران وليس حروبا معها تدمرها.

المحطة المهمة في العلاقة الأمريكية - الإيرانية تمرّ بالعلاقة الأمريكية - الروسية والعلاقة الروسية - الإيرانية. الجديد هو أن الدول الخليجية لم تعد مستبعدة عن الأحاديث والقرارات؛ ولذلك إنها ترحب بما تأتي به الإدارة الأمريكية الجديدة، وتستعد لكل ما من شأنه أن يحيي العلاقة التاريخية التقليدية.

(عن صحيفة "الحياة")