قضايا وآراء

"نصيب العام والخاص بشبكات التواصل الاجتماعي"

1300x600
غالبا ما نقرأ أو نصادف بأدبيات اقتصاد الشبكات، أو بالدراسات المتمحورة حول علم اجتماع الإعلام والاتصال والتلقي، أن الشبكات الرقمية، والإنترنت على وجه التحديد، قد أسهما بقوة في "التشويش" على المجال الخاص في علاقته بالمجال العام، والعكس بالعكس. 

تنبنى إحدى دفوعات هذا الطرح على الاعتبار القائل بأن الشبكة قد غدت حقا مجالا خالصا لتمييع علاقة العام والخاص، بحكم منطق الشفافية الشامل، والذي أدى إلى طرح جزء كبير مما هو خاص، للعلن بالفضاء العام: عرض حميميات الأفراد والجماعات بالمواقع والشبكات الاجتماعية، إمكانية الاطلاع على بنوك المعطيات الخاصة المكتنزة لمواصفاتهم، إتاحة المعطيات ذات الطابع السري للشركات الكبرى...الخ. 

هل تعتبر شبكة الإنترنت عامل توسيع، أم أداة تضييق ما اصطلحت الأدبيات على تسميته بالفضاء العام؟ هل هي وسيلة لدمقرطة العلاقات بين الأفراد، أم تراها مجرد أداة تحسب عليهم أنفاسهم، وتقتفي أثرهم في الحل كما في الترحال؟ 

قد يكون من المتعذر حقا تقديم بعض عناصر الجواب، طالما أن أهم ميزات شبكة الإنترنت أنها بالآن معا، أداة اتصال وتواصل بين الأفراد، ثم أداة لنشر المعلومات على نطاق واسع. وهي من هنا إنما تعمل تقنيا ووظيفيا، على دمج الأداتين معا، على خلفية أن ما يتم ترويجه جماهيريا وعلى نطاق واسع، يمكن أن يكون مادة لتواصل الأفراد، وما يدور بالشبكات الشخصية، بإمكانه أن يقتني الشبكة، ليضمن الرواج الجماهيري الواسع. فيبدو الأمر للناظر، أن الكل يخدم الجزء والجزء يخدم الكل، في إطار منظومة من الروابط العلائقية، قد ندرك بداياتها، لكننا لا نستطيع رسم حدودها ولا نهاياتها. 

وعلى هذا الأساس، فلو كان للشبكة فضل ما في توسيع مجال المشاركة العامة، فإنها تدفع في الآن نفسه، بخطر تشظي المصلحة العامة، واختزالها في مجموعة آراء فردية صرفة، وتعبيرات فئوية، العبرة فيها بالمكتسب الفردي الخاص لا بالمردود الجماعي العام. 

قد نكون هنا إزاء توسيع لمجال الرأي الخاص، لا سيما في ظل انتشار الشبكات الاجتماعية والمدونات الشخصية ومنتديات النقاش وغيرها، لكننا قد نكون بالآن ذاته، إزاء تضييق حقيقي للمجال العام، لا سيما في ظل ترهل أدواته التقليدية (أدوات المجال العام أعني)، من إعلام ووكالات أنباء وفاعلين سياسيين، لم تعد قادرة على مسايرة التحولات التكنولوجية، أو امتلاك القابلية لتملكها وركوب ناصيتها. 

بالتالي، فـ"بتشويشه" على مجال الفعل الخاص واختراقه لمجال الفعل العام، فإن الإنترنت إنما يسهم، وبصورة مباشرة، في زعزعة المكانة التي تمتع بها البعد المواطناتي، لعقود طويلة من الزمن، في ظل ما يسمى بالفضاء العام أو المجال العام أو النطاق العام. 

صحيح أن الشبكة العنكبوتية تجنح لأن تكون ثمة مساواة بين الجماهير بصلبها، لا سيما بين الممتلكين "للمعرفة العالمة"، والمحتكمين على بعض من "المعارف الأولية" فقط، لكن هذه المساواة تبقى نسبية للغاية، إذ النفاذ للمعلومات والقدرة على ترويجها بالشبكة ليس متاحا للكل، بل هو متاح فقط للعارفين بخبايا الشبكة، بكيفية عرضها للمعطيات وبالطريقة التي يجب أن تقدم بها هذه الأخيرة. 

بالتالي، فإن الإنترنت هنا إنما يترجم لهذا الانتقال التدريجي في نمط تراتبية المعلومة وتقديمها، والذي تحول إلى مجرد نمط إجرائي صرف، متمحور حول السبيل لبلوغها والنفاذ إليها. وعليه، فإن الرهان بالشبكة لم يعد كامنا في إعادة وضع حواجز الفضاء العام، بل في سبل التحكم في أدوات نمط التراتبية المكرس بداخله. 

من ناحية أخرى، فإن الملاحظ أن التحولات التي تطال الفضاء العام، وتطال دور الفرد من بين ظهرانيه، لا تقتصر على مساءلة هذا الجانب، بل تسائل أيضا طبيعة العلاقة بين الدولة باعتبارها المؤتمن الأول على الشأن العام، وبين المجتمع المدني الذي تتمظهر بداخله الآراء الفردية والذاتية باستقلالية تامة أو شبه تامة عن الدولة إياها. 

وخلفية التمييز هنا بين الخاص والعام، إنما مردها اعتبارين اثنين: الأول ويكمن في الاعتراف بمكانة وحريات الفرد، للحيلولة دون دوسها من لدن السلطات العمومية. أما الثاني، فيتطلع إلى وضع مسافة نقدية كافية بين البعد الاجتماعي (الذي يعبر عنه المجتمع المدني) والبعد السياسي (الذي تمثله الدولة) والذي يرسم لكل منهما هامش حركته وفعله. 

من جهة أخرى، يبدو أنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن الفضاء العام التقليدي قد طاوله حقا الاهتزاز، بظل النظم الليبيرالية تحديدا، لا سيما حينما بدأت شبكة الإنترنت تنازع منظومة السوق معاييرها وأدواتها وأنماط فعلها وتنظيمها. أي أن الشبكة قد غدت هنا وجها لوجه مع السوق، ليس فقط في تواصل الأفراد والجماعات، بل تحديدا في منازعتها له وظيفته التقليدية كأداة للتنقل الحر للمعلومات، وبالتالي قدرته على ضمان الالتقاء بين المصالح الفردية الفئوية والمصلحة العامة الجامعة. 

لكن المفارقة تبقى مع ذلك قائمة، إذ من شأن النشر المفتوح للمعلومات، تبعا لهذا الطرح، أن يعرض الحميميات للخطر، وكذلك بعد "الاستقلال الذاتي" الذي يجنح إليه الأفراد في زمن تعدد الوسائط. بيد أن هذا الاستقلال الذي يتشبث به الأفراد إياهم هو بالآن ذاته عنصر أساس لتكوين رأي عام قائم ومستقل، لا بل ومن شأنه أن يتحول إلى سلطة مضادة، يكون الجمهور هو محركها والفاعل الأساس فيها. 

ولهذا السبب، فإن شبكات التواصل الاجتماعي مثلا، إنما هي سيف ذو حدين: فهي من جهة أداة اتصال وتحرر وحرية تعبير وديموقراطية، لكنها بالآن ذاته أداة تهديد للحياة الخاصة، لا سيما عندما تضع المعطيات المتعلقة بالفرد والجماعة بيد السلطات، وبالتالي بيد الرقابة والمراقبة، أو تقدمها على طبق من ذهب لشركات تجارية خاصة، لا فكرة لديها لما هي المصلحة العامة، فما بالك الفضاء العام.