مقالات مختارة

جهاد الظلّ

1300x600
هناك ظلاميات متعددة متأتية من كل الجهات؛ ظلامية الحركات الإسلاموية المتطرفة التي اختزلت حضارة بكاملها في سلسلة من الممارسات الطقوسية افترضتها أساسية، أدمت المجتمعات الإسلامية قبل أن تتحول إلى إرهاب عابر للقارات، وظلامية العنصرية التي لا تقل خطرا عن الأولى؛ لأنها اختزالية وشديدة الخطورة؛ إذ تضع المجموعات البشرية المختلفة في خانة إقصائية واحدة، فتصبح، وفق هذه النظرة، مذنبة فقط؛ لأنها تنتمي إلى دين معين، أو قومية محددة، أو حتى إلى لغة غير لغتها. 

وظلامية الهويات الصافية التي لم تترك الشيء الكثير للنازية المقيتة. ولم يكن هناك من حلّ إلاّ مواجهتها بقوة بالاجتهاد العلمي والحضاري، لهذا لم ينج العلماء من هذه الماكنة العمياء، فبدأ جهاد الظلّ والترحل الذي جعل من العقل والإنسان ضالتهما الأساسية والارتقاء بهما. 

وبدأت المحن مما اضطر الكثير منهم إلى التخفي أو الترحل من مكان لمكان حماية لما تبقى من عقل. هكذا وقع لابن رشد الذي نفذ بأعجوبة بعد أن أحرقت كتبه ومخطوطاته. وهكذا أيضا اضطر ابن خلدون إلى دفع الثمن غاليا بالهرب والتنقل بين الأمصار. ولم يسلم من هذه المحن، من جعل من الإسلام ديانة للعشق والعاشقين، صاحب طوق الحمامة، ابن حزم الأندلسي. في كل الأحوال، لم تمنعهم قوى الظلام من رسم صورة أخرى للإسلام، غير تلك التي أرادها قتلة العقل. 

ويندرج اجتهاد الباحث الجزائري مالك شبل ضمن هذا التقليد الثقافي الإنساني الكبير: الاجتهاد في الظل لتجاوز محن الحاضر. لم يكن عمله سهلا داخل هذه المنظومة من الأفكار المتنافرة، والصراعات المعلنة وغير المعلنة، في ظل الضغائن والتقتيل الذاتي، في حرب غير مسبوقة: العربي ضد العربي، والمسلم ضد المسلم. 

فقد اشتغل مالك شبل على هذه السلسلة من الحقائق المركبة والقاسية، وغاص فيها بحثا عن نموذج آخر للإسلام، أكثر حيوية ودينامية وارتباطا بالعصر. للأسف لم يمهله الموت الوقت الكافي للانتهاء من مشروعه العلمي والحضاري والنضالي أيضا، في ظل حرب ضروس تميزها التطرفات المتأتية من كل الجهات. ظل مالك شبل مصغيا لكل التحولات الدولية والصراعات الثقافية التي ضيّقت من مفاهيم الهوية وتعبيراتها، إلى أن حصرتها في أحادية إثنية، دينية، أو لغوية مدمرة للكيانات أكثر منها مساعدة على التفتح في الحياة، في ظل أوضاع شديدة التعقيد تحكمها التطرفات المدمرة، شرقا وغربا. في خضمّ هذه الحاجات الثقافية الإنسانية، كبر الجهد الفكري والتأملي لمالك شبل، الذي لم يترك شيئا إلا وأخضعه للتحليل. 

في سنوات قليلة، أصبح واحدا من أهم المنظرين لإسلام الأنوار، والمدافعين عنه. إسلام المحبة والتسامح، والحياة والتعدد الثقافي، في عالم يسيطر عليه الاختزال والنماذج الجاهزة التي تميل نحو خطابات التخويف السهلة، التي وجدت ضالتها في العربي الإرهابي الذي لا يعرف إلا التوحش والدم والقتل، وكأن القرون من المحن التي عاشها المسلم مقاوما الظلمة من أجل إخراج الإنسانية من خوفها وتأمينها، لم تنجب إلا المسوخ التي أدمت البشرية بتطرفها وجهلها وعنصريتها المقيتة، إذ جعلت من إبادة من يخالفها شعارها الدائم. جربت، في البداية، آلتها القاتلة في العالم الإسلامي، في المساجد والأسواق والشوارع، حيث ارتباك الأمن، والقوانين وضعف الدولة، قبل أن تمدد جرائم هذه المسوخ إلى كل بقاع العالم، لتتحول إلى إرهاب عابر للقارات. 

تناول مالك شبل الظاهرة، ليس من بابها السياسي الاختزالي، الذي لا ينتج إلا الصور المكررة والجاهزة، ولكن من بابها المعرفي والثقافي لاستقصاء قسمات إسلام آخر دفن تحت العنف الذي استملته وسائل الإعلام واستعملته كما شاءت. إسلام حيوي وديناميكي، حكم الدولة والنهضة الإسلامية في بدء انفتاحها الكبير، وحمى الأقليات والمظلومين، مرتبطا بالمنجز العالمي والإنساني، بالخصوص في القرن العاشر الميلادي حيث وصلت العقلانية الإسلامية إلى أرقى صورها الفكرية والتأملية. 

يرفض مالك شبل الصور الإرهابية التي ألصقت بالإسلام اعتمادا على الإرهاب الذي لا يمكن رؤيته خارج الرهانات السياسية التي بدأت تأتي ثمارها، منها وضع الحركات الأوروبية المتطرفة في مدارات السلطة والحكم. لا يمكن رؤية الإسلام بشكل مجتزأ كما يقول الباحث، وهو الذي أمد البشرية بكل المعارف والمكاسب التي جعلتها اليوم في المصاف العليا من الرقي والتطور. 

الإرهاب صناعة سياسوية أخرجت الإسلام عن مداراته الطبيعية التي جاء من أجلها. هناك إسلام لا يمكنه أن يقهر، ذاك الذي سار جنبا إلى جنب مع التطور والتحديث، والعدالة ورفع المظالم، وحق المرأة في التعلم، والاحترام، والحلم، والحياة الكريمة. 

عادت جهود مالك شبل العلمية إلى الجذور الأساسية التي جعلت من الإسلام مساحة حية للعمل والعقل والتسامح. ترك لقرائه، قبل وفاته، سلسلة من الدراسات العلمية الحفرية في تاريخ الحقبة الإسلامية في لحظات تنورها وإبداعها. منها بحثه الكبير: العبودية في أرض الإسلام، الذي أظهر فيه صورة الإسلام التحرري، كيف جاء بفعل لم يسبق به، فمنح للمستعبَد فرصة أن يتمتع بالحرية والحق في الحياة كما الجميع. تتبدى حالة بلال، مؤذن الرسول الأساسي والمسلمين، كنموذج لما يمكن أن تصل إليه حالة التحرير. كما أنه توجه نحو الذين لا يعرفون عن الإسلام شيئا، ويريدون أن يتعرفوا على حضارة غيرت وجه البشرية، فكتب كتابا ديداكتيكيا تعليميا، سهل التناول سماه: الإسلام لغير العارفين. وضع فيه جوهر دين جاء ليصلح الخلل البشري في الحكم والتعامل مع الآخر. 

ترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية، بوصفه النص المرجعي المهم، المشبع بالقيم الإنسانية، ترجمة اعتمدت مسارين، انفتاح النص والتأويل الذي وسع من الرؤى التي وفرها النص القرآني والخبرة الحياتية في مدينة الإسلام. استقبلت الترجمة بشكل جيد، وطبعت مرات عديدة ومنها طبعة الجيب الشعبية ليصبح النص في متناول ملايين القراء العرب وغير العرب. لم يقدم مالك شبل ترجمة القرآن منفصلة عن سياقات التاريخ الذي حدد التصرفات وتحكم في القوانين وفي معاني الآيات والسور. هذه الحواشي شديدة الأهمية بالنسبة لكل من يريد أن يتعرف على الإسلام من خلال مرجعياته الجوهرية.

ربما كان كتابه: بيان من أجل إسلام الأنوار، واحدا من أهم منجزاته الفكرية. فقد جسد فيه رؤيته الفكرية للإسلام في عالم غربي مرتبط بالجاذبية ونقيضها بالنسبة للإسلام. كيف يمكن للإسلام أن يستوعب القيم الإنسانية الموجودة فيه، ويشيعها. لأن القيم الإنسانية التي تمس جوهر الإنسان لا يمكنها أن تتناقض مع ما يصبو الإسلام إلى تحقيقه. 

على المسلمين أن يعيدوا الاجتهاد إلى مسالكه الطبيعية، ويتفاعلوا مع تحولات عصر يسير بسرعة. إسلام الأنوار يمر عبر قناتين، قناة المنجز الحضاري، وقناة الارتباط عضويا بالحاضر والمنجز الثقافي والعلمي والاجتماعي الإنساني. 

من هذا الجدل شاع مصطلح إسلام الأنوار المضاد لإسلام الظلام الذي تبنى الإرهاب والتقتيل. الرحلة ما تزال طويلة، ما في الأفق لا يبشر بأي خير. وستتعاقب على المحن أجيال أخرى، مقبلة.