قضايا وآراء

ياسر أبو هلالة.. فهم اللغز.. فأَبهر

1300x600
عندما زار الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك قناة الجزيرة تبسم وقال: (هي دي علبة الكبريت؟!). 

لا شك في أن قناة الجزيرة هي أحد أهم (عجائب الدنيا الإعلامية)؛ حيث قامت بعمليات قيصرية في منطقة (تحت السرير البصري) المعني ببرمجة الأعصاب؛ فألهبت وألهمت وأينعت.

"ألهبت" الشارع العربي وأخرجته من صمته؛ فأضحكته وأبكته، وأيقظته وآلمته، من خلال سيول الأخبار وتعبيرات الصور، وعرض كل ما كان طي الكتمان.

كما أنها "ألهمت" المُشاهد القدرة على التعبير ورفع سقف الحرية والمزيد من الوعي السياسي القديم والحاضر، وتقبُّل الرأي والرأي الآخر، بل شكلت عقله ونفسيته وجعلته الجندي المجهول المشارك للمسيرة وليس المتفرج، وهو يتابع الخبر الأهم والحدث الأبرز لحظة بلحظة، وما يتبعه من نظرة وفكرة.

ولم أنس وأنا في النرويج ذلك الفيلم الوثائقي عن سرقة الآثار والكنوز من متاحف بغداد، ولم يتمالك كل من في المجلس حينها إلا أن يمسحوا دموعهم.

ثم إنها بعد الوقفات النضالية لقضايا الأمة الأهم وأكبرها فلسطين "أينعت" في الربيع العربي وشاركت في صنعه وتحملت ضريبة ذلك!

ولا أظن الجزيرة إلا وتنتظر الحُسنى في الربيع الثاني لتغني خارجة عن وقار الأخبار مرددة في مقاطعها: (أنا الشعب.. أنا الشعب) و(أومي يا مصر وشدي الحيل) وغيرها من أغاني الربيع الأمجد.

وقبل أن يظن مستبدو الساسة أن الجزيرة هي صانعة التغيرات والاضطرابات السياسية؛ فإننا نقول لهم: إنما هي قَدر تواجه تقديركم، على حدِّ قول أبي العلاء:

تقفونَ والفَلكُ المُسخَّرُ دائرٌ 

وتُقدِّرونَ وتَضْحكُ الأقدارُ!  

وحتى لا يقفز الرويبضة؛ فإن التأكيد ضروري على أن الجزيرة وعت منطق الاستقرار لبلاد عربية كثيرة والخليج بالخصوص، وفنّدت وفضحت وفكفكت خطاب العنف والإرهاب في كل العالم.

هنا يمكن أن نشيد بعد جهد الطاقم المهم الفعال في الجزيرة بدور الرُّبان (وضاح خنفر) وبصماته المستمدة من عقليته ونفسيته التي تتزاحم فيها فلسفة المسيري مع جيفارا مع علي شريعتي!

ولعلي أفصح في مقالة قادمة عن معنى هذه التركيبة التي سمعتها من الأستاذ خنفر في مجالس إعلامية متعددة، وصاغت في عقله رؤيته للجزيرة.

لا شك في أن ثمة مجلس إدارة مقتدر، يحمل استراتيجية منطقية عالية، لكنني أتحدث عن مساحة التجديد المسموح بها للتنفيذيين، وقد كان.

مع هذه الإشادة أتذكر في عدة مجالس أنني كنت أقول للأستاذ (وضاح) إن الجزيرة الأم يجب أن تغير من مضامينها دون أن ترتدي ثوباً آخر (الأخبار). وأبديت ملاحظتي في وجود جفوة نسبية من الأجيال مع القناة بسبب كثرة الأخبار وما تحمله من حمولات نفسية سلبية تبعد المشاهد عنها، وقد كانت من قبل تخفف ببرامج متنوعة ذات قوالب رشيقة تحمل نفس الرؤية، مع إدراك طبيعة الشاشة والمشاهد.

ورغم استنادي لحقائق وأنا ابن الميدان الإعلامي باقتدار؛ إلا أن (جمهورية الجزيرة الثانية) حققها اليوم الأستاذ ياسر أبوهلالة، وفريقه المبدع الضخم.

الجزيرة اليوم فهمت لغز الشاشة ولعبت الدور الذي غابت عنه؛ فرجعت بالفكر والفيلم والقصة والشكل حتى في طريقة عرض الأخبار الرئيسة.

ولا أدل على هذا من الإحصاء الدقيق بعد مرور نصف يوم فقط على مشاهدة الحلقة الأولى من برنامج الجزيرة الجديد (المقابلة) مع الإعلامي القدير: علي الظفيري، وفيه: "الوصول لاثنين ونصف مليون حساب، ونصف مليون مشاهدة، و8 آلاف تعليق". 

هذا التوجه وإن جاء متأخرا لكنه جاء مثمرا وملهما؛ كأن الجزيرة تريد أن تكون الأولى في إعادة صياغة إنسان العصر الجديد.

أفهم تماما أن الجزيرة ليست مهووسة أو مؤدلجة كما يحلو للبعض وصمها به نحو الثورات ومنطقها، وأفهم أن لها تحيزا نسبيا في بعض القضايا حسب ما تراه، لكنني مع ذلك أراها اليوم تساهم في بناء وتشكيل الوعي بحضور منطقي علمي إعلامي تحليلي، يسنده خبراء، وفريق تدويل لهذا العطاء في كل سماءات التقنية الحديثة.

ربما بقيت كلمة مهمة: أن الجزيرة رغم ابتهاجها الواضح بفلسفة التغيير الجديدة شكلا ومضمونا بعد مرور 20 عاما، لكنها بحاجة لبرلمان شبابي استشاري شوري لا يتوقف. ولهذا الاقتراح ورقة لها وقت لبيانها.

ما يهم اليوم أن الجزيرة فهمت اللغز.. فأبهرت، وألهمت، ثم إننا ننتظر الثالثة الأخرى: فأينعت.