كتاب عربي 21

معالجة الذاكرة الوطنية الجريحة: تونس تحت الاختبار

1300x600
مع انطلاق جلسات الاستماع لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي نقلتها عديد من القنوات والفضائيات التلفزيونية، بدأ التونسيون يكتشفون الجانب الخفي والمظلم، وأحيانا الفظيع، من تاريخهم السياسي منذ استقلال بلادهم وتأسيس "الدولة الوطنية".

وما كان يقال في السر أصبح اليوم ينقل مباشرة من أصوات المقموعين إلى آذان المواطنين بكثير من التفاصيل المرعبة، والتي تؤكد أن الذين حكموا طيلة ستين عاما مضت لم تكن دائما أيديهم نظيفة، كما لم تكن وسائلهم في إدارة الشأن العام قانونية وإنسانية، فقد استعملوا القوة الغاشمة أحيانا لإسكات خصومهم أو إخماد الحركات الاجتماعية واحتجاجات المواطنين العزل.

الإقصاء، الحرمان، الإهانة والإذلال، تعرية الأجساد فرديا وجماعيا، التعذيب النفسي والجسدي، الاغتصاب، القتل والاغتيال، هي أشكال من التفنن في نفي الآخر ومحاولة إخضاعه لإرادة الفئات الحاكمة والمحتكرة للسلطة والثروة والسلطان.

والذين لم يطلعوا على الأعمال الأدبية التي وثقت للعنف الممنهج الذي سلط ولا يزال على مواطنين عرب من قبل حكام عرب، مثل رواية "شرق المتوسط " لعبد الرحمن منيف، أو رواية "شرف" لصنع الله إبراهيم، لهم الفرصة اليوم ليتابعوا مباشرة شهادات حية لأشخاص تم اغتيالهم في إنسانيتهم وراء الأسوار والجدران من قبل جلادين مكلفين بتبييض صورة حكام كانوا يزعمون بأنهم حماة التقدم والحداثة والاستقرار واحتكار حب الوطن والتحدث باسم "الجماهير".

تاريخ تونس يكتب هذه الأيام بطريقة مختلفة عن الروايات الرسمية. فمنذ اللحظات الأولى للإعلان عن الاستقلال الداخلي عام 1955، انقسم الحزب الدستوري عن نفسه، وتشكل جناحان أحدهما بزعامة الحبيب بورقيبة والآخر بقيادة صالح بن يوسف، ولم يحسم هذا الخلاف بالاحتكام للوسائل السلمية والديمقراطية، وإنما حسم عبر السلاح ومن خلال عبور فتنة خلفت وراءها مآسي وجراحا جعلت الذاكرة التونسية مكلومة ومجروحة إلى اليوم، وخلفت وراءها ذكريات مؤلمة لم يتخلص ضحاياها من آثارها العميقة حتى الآن.

فالذاكرة لا تهدأ ولا تستقر إلا عندما تعبر بحرية عن معاناتها، ويعاد لها الاعتبار، ويأتي من داسوها بأقدامهم القذرة فيعترفون بما ارتكبوا، ثم يقدمون اعتذاراتهم لضحاياهم. في تلك اللحظة الانسانية المليئة بالمشاعر المتناقضة يشعر المقموع بأنه قد استرد توازنه النفسي، وعادت إليه كرامته وجزء من حقوقه، وينتظر منه أن يتعالى عن أحاسيس الانتقام فيعلن في لحظة صفاء وأمام الجميع عن أنه تقبل اعتذار جلاده، وأنه عفا عنه وطوى صفحة الماضي بكل ما علق بها من سواد.  

يسمى هذا السيناريو بـ"العدالة الانتقالية"، وهو ما تحاول تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس أن تجسده على أرض الواقع عسى أن يشكل ذلك خطوة أخرى من خطوات تصفية تركة الاستبداد الطويل.

وهذه ليست التجربة الأولى في العالم العربي حيث سبق للمغرب أن نفذها على طريقته لكي يطوي سنوات الرصاص التي كانت رهيبة ومخيفة تحت حكم الملك الحسن الثاني والد الملك الحالي محمد السادس، ورغم أن الملك الراهن كان يدرك بأن العدالة الانتقالية ستكون محاكمة مباشرة وجذرية لفترة حكم والده، إلا أنه سمح بها لأنه أدرك بكونها الأسلوب الأفضل لتجاوز الماضي بكل أحزانه وعوائقه والدخول في مرحلة جديدة، وهو ما تم فعلا حيث فتحت هذه التجربة الباب لمراجعات هيكلية ودستورية مما سمح لنظام الحكم في المغرب بأن يؤسس ثقة جديدة مع النخب والشعب، وهو ما ساعده كثيرا على امتصاص ارتدادات ثورات الربيع العربي.

في تونس ينتظر المواطنون سماع أصوات الجلادين أو المتهمين بالوقوف وراء انتهاكات سنوات الحكم السابقة وصولا لمرحلة ما بعد الثورة. ففي الحالة المغربية اعترف الكثير من هؤلاء، لكن لا يعرف إلى حد الآن هل سيجرأ الجلادون في تونس على مواجهة ضحاياهم، ويعترفون بما نسب إليهم ويطلبون منهم الصفح. هذا ما سيعرفه الجميع يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر القادم، وهو تاريخ يتزامن مع اندلاع الثورة التونسية قبل ست سنوات. وإذا كان هناك من عبر عن استعداده من بين الضحايا الذين قدموا شهاداتهم للعفو على من عذبوهم وظلموهم إذا اعترفوا وطلبوا الصفح، إلا أن آخرين قد يصرون على أن محاكمة هؤلاء والاقتصاص منهم. عندها كيف ستجري الأمور.

بقطع النظر عما سيحصل بعد شهر، فإن من النتائج المفترضة لتطبيق العدالة الانتقالية هو استخلاص الدروس حتى لا تتكرر المأساة، وحتى لا يقع إعادة إنتاج الاستبداد والقهر. هذا الطريق أكثر صعوبة وتعقيدا. فالمصالحة بين الضحايا والجلادين واردة، لكن لا أحد يضمن وضع حد نهائي لاستئناف العنف والقمع، سواء بعودة جزء من المنظومة القديمة بآلياتها وربما حتى بعودة بعض من رموزها. 

حتى لا يتكرر الماضي يجب ملازمة الحذر، واستمرار يقظة نشطاء حقوق الإنسان مع مواصلة مراجعة القوانين المخالفة للدستور والمواثيق الدولية، إلى جانب تغيير جوهري في سلوك المواطنين، وبالأخص سلوك المسؤول الأمني وأيضا السياسي. باختصار هناك حاجة ملحة لثورة ثقافية تشمل الجميع، لأنه لا قيمة للمطالب الثورية والشعارات الديمقراطية إذا لم تتغير العقليات وتقل الفجوة بين الخطاب والممارسة.