قضايا وآراء

ينابيع الثورة وبراكين الغضب الاجتماعي في مصر

1300x600
لا شك أن ثورة يناير لا تزال حية، وأنها تلقي بظلالها على سائر المشهد السياسي والاجتماعي بمصر، سواء بشكل غير مباشر عن طريق استمرار العمل على إجهاض وتتبع كل آثارها، أو بشكل مباشر عن طريق العمل على الالتفاف عليها وعلى أهدافها، ولو بمحاولة استنساخها كما حدث في 30 حزيران/ يونيو.

فقد فتحت ثورة يناير كل أبواب التغيير في مصر على مصراعيها، وجعلت المجتمع ممسكا بكل أدوات الثورة والتغيير وقادرا على تفجيرها وقتما يشاء إذا شاء، ولهذا صار المراقبون ينتظرونها في كل لحظة، وتخافها السلطة وتترقبها في كل إجراءاتها، وهو مشهد جديد لم تعتده مصر على طول القرون، ولم ينتظره منها المراقبون مهما ساءت الأوضاع السياسية.

لقد أصبحت ينابيع الثورة أقرب من الجميع من أي وقت مضى، كما أصبحت خرائط الاحتجاج تشمل مساحات عريضة من المجتمع المصري، وأصبحت براكين الغضب منتشرة على طول البلاد وعرضها، كما أصبحت براميل السخط مبعثرة في كل شارع وحي ومدينة. فقد وصل المجتمع لحالة من حالات الاستعداد النادرة للانفجار في وجه السلطة الغاشمة.

لكن ذلك ينبغي ألا ينسينا حقيقة هامة وضرورية، وهي أن العزوف النسبي لقطاعات هامة من الشعب عن التفاعل مع القضايا السياسية التي تحتل أولوية كبرى لدى حركات المعارضة، فيما بعد انقلاب 3 تموز/ يوليو، لم يكن عزوفا بقدر ما كان خللا في بنية وتوجهات حركة المعارضة التي فشلت في إدراك المضمون الصحيح للخطاب الواجب أن تتوجه به للشعب في هذه الوضعية الحرجة، وكأن المطلوب من الشعب أن يطور نفسه ليتأقلم مع خطاب لا يلبي حاجاته ولا يلتفت لمعاناته ولا يستجيب لطموحاته.

أما الآن وقد تم تعديل جوهر الخطاب السياسي قسرا ورغما عن النخبة ومن قلب الشارع، فقد أصبح الواجب هو السير خلف الشارع وترديد خطاب الشعب والانصات للصوت الصادر من الحواري والنجوع ومن داخل التكاتك.

ليس مطلوبا من النخبة إلا أن تترك الخطاب السياسي المحنط لتتعلم فنون الخطاب الاجتماعي الحيوي والمتحرك، فإذا كانت النخبة قد فشلت في توصيل رسالتها عبر الخطاب السياسي المحنط، فإن الفرصة أمامها لا تزال سانحة من خلال الاستناد إلى الخطاب الاجتماعي الذي أطلقه الشارع وصب من خلاله جام غضبه على السلطات الفاشلة.

فإذا كانت ينابيع الثورة السياسية قد جفت فإن ينابيع الثورة الاجتماعية لا تزال زاخرة بكل جديد ومليئة بالمفاجآت، وإذا كانت براميل الغضب السياسي قد أصابها العطب فإن براميل السخط الاجتماعي لا تزال فتية بكرا قادرة على تجديد الساحة بكاملها وضخ الدماء في كل أرجائها.

كما يجب أن نعلم أن السلطات التي قد تقدر على محاصرة الاحتجاجات السياسية كليا أو جزئيا بشكل دائم أو مؤقت؛ فإنها تقف عاجزة أمام الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي، بل ولا تجد لها أعذارا تدافع بها عن نفسها، فقد أخذت فرصتها كاملة خلال ستين عاما لم تر البلاد خلالها غير الفقر والبطالة والأمية والمرض والتخلف على كافة الأصعدة. لقد أصبحت مصر في عصورهم دولة قزمية، كما تقدمت عليها في كثير من المجالات دولا أصغر منها كثيرا وأقل شأنا.

ولهذا فقد أصبحت رياح الثورة الاجتماعية والانتفاضة المعيشية والثأر للكرامة الوطنية المهدرة هي الرياح المرشحة للهبوب، وهي التي تمتلك قدرات لا يمكن مقاومتها، كما أنها تستعصي على ملاحقة عواملها أو مصادرة براميل البارود التي تحتويها.

وفى ضوء ما سبق يمكن قراءة فيديو سائق التوكتوك (مصطفى الليثي) الذي لمس أوتارا حساسة لدى كل شعب مصر، وتجاوبت معه غالب القطاعات والشرائح الاجتماعية والعمرية، بل ورأوه أفضل من عبّر عنهم وأفصح من تكلم باسمهم.

وفي ضوء ذلك اكتوى كل شاب في مصر بالحريق الذي نشب في جسد سائق الأجرة (أشرف شاهين). فغالبية الشباب يكتوون بنار البطالة وجميعهم يصرح من نار الأسعار.. وفي ضوء ذلك رأينا همام الصعيدي يصرخ في السيسي: غور أو أرحل!! ورأينا الفتاة القاهرية تقول له: لن نقبل أن نضرب بالجزمة بعد اليوم!! ورأينا ربة المنزل تصرخ في قلب الشارع أو الحارة منددة بكل أشكال الغلاء، ومصورة بلغة فصيحة كيف أن الحياة أصبحت مستحيلة في مصر.

كل هؤلاء تحدثوا بلغة ولهجة ثورة يناير التي لا تزال حية في القلوب كما في الوعي الباطن للجماهير.. كل هؤلاء عاشوا حلم العيش والحرية والكرامة الإنسانية، ولن يقبلوا من أي سلطة أن تنسيهم هذا الحلم، فضلا عن أن تتجاوزه في سياساتها فلقد حرث السخط الاجتماعي قاع المجتمع ومهد الأرض لموجة جديدة من موجات ثورة يناير.. فهل استعدت القوى والحركات السياسية لها؟! وهل أعدت نفسها لتلحق بطموحات الشعب الذي غيّر كل معادلات التغيير من قبل، وغيّر مجرى الحياة السياسية في مصر كلها؟ وتجاوز كل الاسقف التي عاشت لها وعليها النخبة عقودا طويلة؟!

وأخيرا.. أرجو أن تكون قد وصلت رسالة الشعب لكل من يهمه الأمر.