قضايا وآراء

أوباما صنع مأزقا لأمريكا والعالم

1300x600
تشكّل اليوم سوريا مأزقا للعالم كله، حيث تضع السياسة الدولية أمام نمط من المأزق لا يمكن الخروج منه إلا بأحد خيارين مؤلمين، إما الدخول في حرب كونية، أو حلول الفوضى في النظام الدولي، باستثناء ذلك فإن التخريجات الأخرى للأزمة لا تعدو أن تكون تأجيلاً للانفجار الكبير.

ما أوصل الحالة إلى ما هي عليه اليوم، طبيعة المقاربات التي اتبعتها القوى الكبرى، المسؤولة عن الأمن والسلم الدولي وصاحبة القرار في النظام الدولي المعاصر، فقد استغلت تلك الأطراف موقعها ذلك لتوظيف الأزمة السورية في خدمة استراتيجياتها، وفي تخل واضح عن مسؤولياتها، لتدخل في لعبة صراع على المصالح والنفوذ على حساب دماء الشعب السوري وعذاباته.

لا شك في أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها القوى العظمى في العالم والتي تنفرد بالصدارة وبدرجات عن منافسيها، وهذا كلام رئيسها باراك اوباما متباهياً بعظمة بلاده، وكأن تلك العظمة لم تكن لتكتمل سوى بالقيام ببعض التكيكات والسياسات ذات الطابع الانتهازي التي سيكون لها مفعول الإبادة بالمعنى الحقيقي تجاه الشعب السوري الثائر على نظام لم تعد حتى البهائم قادرة على العيش تحت حكمه.

منذ اشتعال الثورة تعمدت أمريكا، وبشكل دوري، إصدار تصريحات غريبة في توقيتها ومضمونها، أمريكا ليست معنية بالشأن السوري ولن تتدخل في الأزمة، وكأن هذه السياسة كان المقصود منها دفع نظام الأسد إلى إخراج أسوأ ما لديه تجاه الشعب السوري، وكأن المقصود فتح مساحات السماح له وتحديثها والتذكير بها بين فترة وأخرى، كان المراقبون يستغربون إصرار إدارة أوباما على تكرار هذه اللازمة مع العلم أنه في حينها لم يطلب أحد من واشنطن التدخل في الأزمة لصالح أي طرف.

بعد ذلك، وضع أوباما خطه الأحمر الشهير، الكيماوي، لكنه منح نظام الأسد خيارين لم يكن يحلم بهما، فإذا ما تم حشره وتبلورت ملامح سقوطه فإنه يلجأ لاستخدام الكيماوي بذريعة أنه يواجه أمريكا، إذ يكفي أن يستخدمه ليظهر أنه مقاوم ويتحدى سلطة أمريكا في العالم، وإذا ما سكتت أمريكا فإنه سيعرف أن الطريق مفتوح أمامه للسير بكل خيارات الإبادة، بما فيها الكيماوي الذي يستعمله على نطاق أضيق من استعماله في الغوطة، لكنه سيستعمله دائماً وحتى في معارك تكتيكية صغيرة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عملت إدارة أوباما على استثمار الحرب السورية لتحصيل تنازلات من إيران في ملفها النووي عبر التلميح والتصريح بأنها مقابل ذلك تستطيع مد نفوذها في الجوار العربي وفي سورية دون أي عوائق، وهو ما شجعها على تحويل الصراع مع نظام الأسد إلى صراع طائفي علني.

لكن الاستخدام الأكثر انتهازية لدماء السوريين كان في فتح الباب لروسيا كي تستنزف قوتها في المستنقع السوري بدل أن تصرف طاقتها في مشاكسة الناتو على حدود أوروبا، هكذا تتجلى عبقرية حسابات إدارة أوباما، التي أنهكت نفسها في إرسال الرسائل للكرملين أنه ليس سوريا بل الشرق الأوسط كله لم يعد يعنيها فالعزم معقود على الرحيل إلى شرق آسيا، أما الشرق الأوسط فهو أرض فراغ سائبة سيكون جيداً أن تملأه روسيا وتتدرب في حقوله على ممارسة دور القوى العظمى.

ربما لم يكن أوباما حصيفاً بما فيه الكفاية ليدرك أن اللعب مع الصغار "روسيا وإيران" مشكلة ستترتب عليها مآزق خطيرة، وأن سياساته الانتهازية سينتج عنها تداعيات لن يسلم منها حتى أمريكا نفسها، وبالفعل تجد اليوم مؤسسات الدولة الأمريكية، البنتاغون والسي أي إيه، نفسها في مأزق خطير، فهي من جهة معرضة لهزيمة بشعة وعلى الهواء المباشر بما يضر بسمعة الولايات المتحدة على مستوى العالم ويلغي مصداقيتها، ومن جهة ثانية لا تملك حيارات كثيرة لمواجهة التحدي المرفوع بوجهها سوى بمغامرة مماثلة قد تنزلق الأمور بعدها إلى حرب كونية كبرى.

ربما كانت إدارة أوباما تسعى لإيجاد حلول لمشاكل نواجهها في البيئة الدولية، والأكيد أنها وجدت في الأزمة السورية منبراً سهلاً لحل تلك الأزمات، لكن الأكيد أيضاً أنه مقابل مكاسب صغيرة عملت إدارة إوباما إلى خلق تعقيدات هائلة في السياسة الدولية المعاصرة ربما تكلف العالم كله تكاليف لا حصر لها.

في سوريا يبدو الجميع في ورطة، روسيا نفسها في مأزق رتبه عليها استسهالها إمكانية القضاء على ثورة شعب أنهكته القوى الإقليمية، وها هي تغرق رويداً في حرب لن يكون الخلاص منها حسب المقاسات التي صممها أصحاب الرؤوس الحامية في الكرملين، والإقليم كله في ورطة جراء تصاعد العداء بين أطرافه، والعالم كله يعيش تداعيات الأزمة السورية بتوتر يكاد يشل حركته. ذات يوم وعندما قرر أوباما ضرب الأسد على خلفية استخدامه الكيماوي لم يصدر عن روسيا سوى تمنيها حل المشكلة بدون اللجوء للعنف، لو أن أوباما فعلها لكان سيوفر على سوريا مئات آلاف القتلى وسيوفر على أوروبا الاضطرابات التي تعيشها جراء أزمة اللاجئين ويوفر على البنتاغون الحرج المذل، بل كان قد وفّر على روسيا نفسها مغبة الغرق في أزمة لن تعرف إلى أين ستوصلها.