بورتريه

نصف جنرال و"رجل سلام" زائف (بورتريه)

بيريز
ما يوصف به لا ينطبق على سيرته الرسمية والشخصية، بل إنه يناقضها!

وأكثر مفردة ترددت بعد الإعلان عن موته بعد إصابته بسكتة دماغية، هي مصطلح "رجل سلام".

في سيرة الرجل أربع محطات رئيسة ولا واحدة منها لها علاقة بـ"السلام": مجزرة قانا، والمفاعل النووي الإسرائيلي، والحروب الثلاثة الأخيرة على غزة، وتدشينه لأولى مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.

رجل هش لكنه ماكر وخبيث، مسيرته السياسية قامت دائما على وجود شخص "أبوي" أو "حاضنة" يقف إلى جانبه ويدفعه إلى الصفوف الأمامية.

كثيرا ما لقب في الأوساط الإسرائيلية بـ"السيد الخاسر".

شمعون بيريز تحدى سمعته كخاسر أبدي في جميع الانتخابات التي خاضها في حياته السياسية الطويلة، ليصبح رئيسا "للدولة العبرية" وهو في الثالثة والثمانين من العمر، وهو الذي حقق رقما قياسيا في الفشل في الانتخابات التشريعية، حيث إنه هزم في أعوام 1977 و1981 و1984 و1988 و1996 في وقت كان فيه رئيسا لحزب "العمل".

المنصب الأخير الذي شغله بيريز قبل رحيله، منصب رئيس"الدولة" ، كان  بروتوكوليا كون "النظام السياسي" الإسرائيلي برلمانيا.  

وللمفارقة فإنه فاز بهذا المنصب بالتزكية في الدورة الثانية من الانتخابات في "الكنيست"، بعدما ضمن انسحاب منافسيه بعد الدورة الأولى، وفاز بيريز بـ86 صوتا مقابل 23 حين دعي النواب للتصويت مع أو ضد انتخابه.

وبالرغم من تولي بيريز منصب رئيس الوزراء مرتين فإنه لم يفز في أي انتخابات، فقد شغل منصب رئيس الوزراء في عام 1984 في ظل حكومة "وحدة وطنية" تشكلت آنذاك بالاشتراك مع حزب "اللكيود" بزعامة إسحاق شامير، وكانت المرة الثانية في عام 1995 في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين، وجمع بين منصبي رئيس الوزراء ووزير الدفاع.

شهد خطه السياسي تقلبات كبرى، فكان مصنفا بين "صقور" حزب" العمل" وقد وافق في السبعينيات في وقت كان فيه وزيرا للدفاع، على قيام أولى المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.

 لكنه عرف فيما بعد بأنه من "حمائم العماليين" بعدما لعب دورا أساسيا في "اتفاقات أوسلو الموقعة" مع  الرئيس الراحل ياسر عرفات عام 1993، فيما كان رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين لا يزال يشكك في جدواها.

اشتهر بقدرته على التفاوض والنفس الطويل في تحقيق"المصالح الإسرائيلية العليا"، بالطرق الدبلوماسية أحيانا وبالعسكرية أحيانا أخرى.

تجاذبته السياسة والعسكرية والتوراة.. لم يعترف به الحاخامات، ولم تزين الأوسمة صدره مثل  أي جنرال، ومارس في السنوات الأخيرة دور الرجل الثاني، رغم صفتي المكر والدهاء اللتين صبغتا حياته المهنية.

في مجتمع إسبارطي لا يمجد إلا القادة العسكريين والفاتحين، ولا يعترف بأي سياسي مهما كان مشعا أو كالحا، لم يكن أمام شمعون بيريز من خيار (وبالمناسبة هو أحب دائما رائحة الخيار)، سوى أن يتمسح بستائر العسكر، فتولى مناصب إدارية عدة في "وزارة الدفاع"، وانضم كمقاتل ضمن صفوف عصابات "الهاغاناة" التي ارتكبت مجزرة "دير ياسين".

ثم إنه في النصف الثاني من الخمسينيات أثار مخاوف الفرنسيين في مفاوصات متعددة الأوجه ليحصل في نهاية "صفقة الأكاذيب" على الأسلحة الفرنسية المتطورة ومنها طائرة "مستير"، وأن يضع بالتعاون مع "الأصدقاء الفرنسيين" أسس المفاعل النووي الإسرائيلي في "ديمونا". 

ويقف بيريز وراء تأسيس شركات الأسلحة الكبرى وصناعات الطيران الإسرائيلية، ويعتبره الخبراء الأجانب "أب" البرنامج النووي الإسرائيلي الذي جعل من "الدولة العبرية" القوة الذرية السادسة في العالم.

ويروي كتاب "شمعون بيريز: سيرة ذاتية" أن رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق موريس بوجسيمونير الذي شغل المنصب حتى عام 1957، قام بتزوير تاريخ إحدى الوثائق الرسمية حتى يتأكد من تزويد الإسرائيليين بمفاعل نووي بعد انتهاء ولايته، وذلك بناء على طلب شخصي من شمعون بيريز.

بيريز الذي ولد في عام 1923، في فيشينيفو ببولندا تحت اسم عائلة بيرسكي كان متأثرا بجده أكثر من تأثره بوالده السطحي، فقد كان جده متعمقا في التوراة، وبدا ذلك التأثير واضحا في طفولته إذ تملكته الرغبة في كتابة الشعر رغم انعزاليته وضعفه أمام الأطفال الآخرين الذين كان يقف أمامهم عاجزا غير قادر على صون نفسه من الضرب.

وفي تلك المرحلة من عمره، ظهر تعصبه الديني الذي لم ينحسر قليلا إلا  في مرحلة لاحقة حين درس اللغة العبرية على يد يهشواه رابينوفتش، الذي أصبح وزيرا فيما بعد مع بيريز في حكومة واحدة، كما أنه التقى مصادفة بأحد العاملين في "حركة الشبان العاملين" التي تشرف عليها "الهستدروت"، وهنا وجد بيريز نفسه أفضل منه في أي مكان آخر. 

كان دائما بحاجة إلى شخص أكبر منه ليرعاه، في البداية جده، ثم حين أخذت ملامح شخصيته تتضح، خاصة بعدما شارك في معارك عام 1948، تولى المهمة ليفي إشكول، ثم ديفيد بن غوريون الذي اختاره ليشارك في المؤتمر الصهيوني العشرين الذي عقد في سويسرا عام 1946 كممثل لحزب "الماباي". 

سيساعده بن غوريون فيما بعد في أكثر من مكان وزمان، فأسند إليه منصب رئيس التعبئة والاستيعاب في القوات الإسرائيلية في حرب أيار/ مايو  1948، وهي القوات التي تأسست أصلا من تجميع المنظمات الإرهابية الخارجة عن القانون في الأربعينيات والتي اتهمت بسلسلة من المجازر والتفجيرات في فلسطين، ومنها منظمات "الهاغاناة" و"الارغون" و"شتيرن".. كما أن بن غوريون هو الذي أوفده إلى جامعة "هارفارد" للدراسة والإشراف على مهمة شراء الأسلحة وشحنها إلى موانئ فلسطين المحتلة.

وفي الخمسينيات والستينيات كان بيريز يعيش مرحلة الحضانة السياسية بوجود بن غوريون، فقد ساعده هذا الأخير في الحصول على أول مقعد له في الكنيست في منتصف الستينيات، وساهم في تأسيس حركة "رافي" التي نشأت نتيجة انشقاق داخل "الماباي".

كان بيريز يزداد قوة في حزب"العمل"، ومع ترنح رئيسة الوزراء غولدا مائير أمام نتائج حرب رمضان/ أكتوبر عام 1973 الكارثية، فقد كان بيريز يتربص للانقضاض على الحزب، غير أن منافسه اللدود فيما بعد إسحاق رابين كان هو الآخر يكمن في ركن مظلم من الغابة في انتظار اللحظة المناسبة، وانقض رابين على الحزب ومنصب رئيس الوزراء تاركا بيريز في الصف الثاني.

ولم يتقدم بيريز إلى الأمام إلا بعد فضيحة رابين المالية واكتشاف حساب سري لزوجته ليئا في الولايات المتحدة حيث يمنع القانون الإسرائيلي فتح حسابات خارجية، وهكذا تقدم بيريز إلى منصب رئيس الوزراء، تماما كما هو الحال حين اغتيل إسحاق رابين عام 1995، حيث تقدم بيريز أيضا ليأخذ المنصب الذي استعصى عليه نحو عشر سنوات.

ربما كان الانتصار الوحيد الذي حققه بيريز على رابين في الثمانينيات هو حين فاز بزعامة الحزب ودخل  في حكومة" التداول الحزبي" أو "الرأسين" مع" الليكود" بزعامة إسحاق شامير، ليصبح في السنوات الأربع الأخيرة الذيل السياسي، أو "محامي الشيطان" في حكومة آرييل شارون، ثم في حكومة يهودا أولمرت بعد دخول شارون في الغيبوبة، إذ إن شراكة "بيريز–شارون" جعلت من بيريز ورقة التوت التي تستر أسوأ الجرائم.

مر بيريز بحالة من انعدام الوزن والغياب شبه الكامل عن المسرح السياسي الإسرائيلي؛ فهو رغم ما يظهر به من هيئة "رجل سلام" فإنه بالكاد يمكن تمييزه عن معسكر اليمين المتطرف.

شارون نفسه لم يفكر في استخدامه إلا من أجل استثمار رصيد بيريز الدولي، كصاحب رؤية استراتيجية "لتعايش إسرائيل وتعاونها مع دول المنطقة".

وحين انسحب من " العمل" إلى حزب شارون "كاديما"، قال الصحافي دانييل بن سيمون في "هآرتس" إن هذا الأمر أثبت أن بيريز "شخص انتهازي استفاد من زعامته لـ"العمل" من أجل تعزيز مصالحه الخاصة". 

ولاحظ أن "ناخبي هذا الحزب كانوا على حق في عدم انتخاب بيريز مرة أخرى لرئاسة الحزب، فقد استطاعوا أن يحددوا من هو العنصر الانتهازي في "العمل"، الذي حاول طوال سنوات أن يخفي نواياه الحقيقية".

بعد قليل من فوزه بجائزة "نوبل للسلام" عام 1993، كان أعضاء من اللجنة التي تختار الحاصلين على الجائزة ليعبروا عن ندمهم لمنحهم شمعون بيريز "جائزة نوبل للسلام"، ورغبتهم في سحبها منه إن أمكن، بعد سلسلة الجرائم التي ارتكبها فيما بعد.

وأشرف بيريز شخصيا على أبشع جرائم الحرب في قرية قانا اللبنانية عام 1996، في مخيم كان يقيم فيه مئات المدنيين، يعود للقوات الفيجية التابعة للأمم المتحدة.. ويصف الكاتب البريطاني روبرت فيسك في صحيفة "إندبندنت" تفاصيل المجزرة في قانا بوصفه شاهد عيان على المجزرة بقوله: "لقد شاهدت النتائج.. أجساد أطفال ممزقة، وصياح اللاجئين، والأجساد المحترقة، وكان اسم المكان هو قانا، وكانت نصف الأجساد -160 جثة لأطفال، وكانت ملقاة تحت معسكر تابع للأمم المتحدة، بعدما مزقها القصف الإسرائيلي عام 1996، وكنت مع قافلة الأمم المتحدة خارج القرية الجنوبية في لبنان، ومرت القنابل من فوق رؤوسنا، واستمر القصف لمدة 17 دقيقة".

وخلال الفترة الرئاسية لبيريز، فقد شن الاحتلال الإسرائيلي ثلاث حروب على غزة، الأولى بدأت في كانون الأول/ ديسمبر عام 2008 واستمرت 21 يوما، وأسفرت عن استشهاد 1417 فلسطينيا وإصابة 4336، والثانية اندلعت في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012، وتواصلت على مدار ثمانية أيام، ما أدى لاستشهاد 155 فلسطينيا وإصابة نحو 1500 آخرين، فيما وقعت الحرب الأشرس على مدار 51 يوما في صيف عام  2014، وتسببت باستشهاد أكثر من ألفي فلسطيني وإصابة نحو 11 ألفا آخرين.

ومع كل هذا، فإن بيريز يوصف بأنه من "الحمائم"، ولكنه في الحقيقة ووفقا لسيرته وإنجازاته فهو أكثر من "صقر جارح" وجنرال دموي. 

وفي حين أنه يرتدي قفازا من حرير فإنه يخفي ما تحت الرماد من شخصيته، فهو رجل برغماتي "لا يقدس سوى مصلحته الشخصية"، بحسب ما ذهب إليه دانييل بن سيمون في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.