كتاب عربي 21

عودة إلى "الفصل بين السياسي والدعوي"

1300x600
حينما شاركت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن في الانتخابات النيابية التي جرت في أواخر عام 1989 رشحت للنيابة ثلة من أعضائها الذين عرف المجتمع الأردني معظمهم من خلال النشاط الدعوي العام عبر الخطابة في المساجد أو المحاضرات العامة أو النشاطات الاجتماعية المتعددة أو الأعمال الخيرية التي قربتهم من الناس فأحبوهم ووثقوا بهم. إلا أن التجربة البرلمانية كانت عسيرة على عدد لا بأس به من هؤلاء لأن عالم السياسة في منظومة الدولة الحديثة – رغم كل ما ظننا أننا كنا نعرفه عنه – أثبت لنا أنه أشد توحشاً من كل ما قد يخطر بالبال. 

 تداعيات المشاركة في العمل السياسي (النيابي ثم الوزاري) كانت شديدة الوطأة على جماعة الإخوان وعلى أفرادها. فعالم السياسة يضع الممارسين لها على المحك، ويختبر النفوس حتى يكاد يزهقها، ويكشف في الممارسين من الخصال ما كان سهلاً عليهم من قبل إخفاؤه، ويشعل نار التنافس على الدنيا بين بعض من كانوا يدعون الآخرين إلى أسمى درجات الزهد في الحياة. ولكنه في نفس الوقت يسبب تناقضاً محرجاً بين المثال الذي كان الدعوي يدعو إليه وبين الواقع الذي يجد السياسي نفسه مرغماً على القبول به. 

ولعل ما مر به إخوان الأردن مر به إخوانهم في الأقطار العربية الأخرى التي شهدت انفتاحاً أو بعض انفتاح – إلى زمن محدود – منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى اندلاع شرارة الانتفاضات العربية في أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011. وفي كل حالة من هذه الحالات كانت قضية التناقض الظاهر بين الممارسة الدعوية والممارسة السياسية تفرض نفسها بقوة، وكان مشروعاً أن يطرح التساؤل حول إمكانية أو نجاعة الفصل في المهام حتى يظل الدعوي طاهراً متعففاً مصراً على الحق لا يحيد عنه ولا يساوم، ويتمكن السياسي من خوض غمار جولات من المقارعة والتفاوض ويتحمل وحده عبء التنازل عن المطالب والتراجع عن المواقف والتلوث بمعايشة الباطل. 

ورغم أن مشاركة الإسلاميين في السياسة كانت قصيرة الأمد بسبب تراجع الأنظمة الحاكمة عن فكرة المشاركة والإصلاح والتحول التدريجي نحو الديمقراطية، إلا أن تداعيات المشاركة الأولى ظلت تتفاعل داخل أجسام الحركات الإسلامية الإخوانية، فظهرت كتل داخل الجسد الواحد أطلق عليها حمائم وصقور تارة، ومعتدلون ومتشددون تارة أخرى، تتباين في الظاهر حول الرؤية والوسائل، وإن كانت في الحقيقة تتنافس على السلطة داخل الحركة وعلى مواقع القيادة فيها. 

جاءت انطلاقة الثورات العربية منقذة للتنظيمات الإخوانية، حيث تراجعت حدة الخلافات وانشغل الجميع، طوعاً أو كرهاً، في تجيير وتسيير الانتفاضات الشعبية علها تثمر تحولاً طال انتظاره من الاستبداد إلى الديمقراطية ومن القمع إلى الحرية. إلا أن الثورة المضادة التي شنتها النخب الفاسدة ومولتها الإمارات والسعودية والكويت عاجلت الإخوان في مصر وفي دول الجوار بضربة شبه قاصمة، فأربكت صفوفهم، ودمرت بنيانهم وسعرت ما كان بين تياراتهم من خلافات سرعان ما أفرزت انشقاقات كما حدث في الأردن مؤخراً. 

في هذه الأجواء المهددة لكل تنظيم إسلامي سياسي، باتت أولوية حركة النهضة في تونس هي الحفاظ على أكبر قدر من المكتسبات ودرء أكبر قدر من المهلكات. فرغم أن الحركة التي التأم شملها بعد عودة المغتربين وتحرر المعتقلين حققت السبق في أول انتخابات تشريعية بعد سقوط نظام بن وفازت بالمرتبة الأولى وكان من المفروض – نظرياً – أن تعطى الفرصة لحكم البلاد نزولاً عند رغبة أغلبية التونسيين، إلا أنها أدركت أن إصرارها على هذا المكسب سيوردها المهالك، وسيكون مصيرها هو ما آلت إليه أوضاع الإخوان في مصر. فبدأت سلسلة من التنازلات الطوعية، واجتهدت من الإجراءات ما وقاها نيران الثورة المضادة، رغم أنها لم تسلم من أبخرتها السامة التي أوجدت مناخاً تدنت فيه الرؤية. 

بطريقة أو بأخرى تشكلت لدى قيادة حركة النهضة قناعة بضرورة إعادة التموضع وإعادة التشكل حفاظاً على الذات، وبضرورة إصدار سلسلة متتابعة من التطمينات إلى كل من يهمه الأمر محلياً وإقليمياً ودولياً حتى لا ينقض عليها من انقض قبل حين على شقيقتها الكبرى في أرض الكنانة. وكل هذا يدخل في باب الاجتهاد، ولا بأس فيه على الإطلاق، طالما أنه لا يخل بالمبادئ والقيم المؤسسة ولا يتنازل عن الأهداف العليا. ولعل من هذه التطمينات الإعلان عن خطة للفصل بين الدعوي والسياسي. 

من المثير للاهتمام أن تاريخ حركة النهضة لم يشهد توتراً بين العاملين في المجال الدعوي والعاملين في المجال السياسي كالذي شهده الإخوان في الأردن على سبيل المثال، وذلك أن حركة النهضة لم تتح لها الفرصة أصلاً للمشاركة في السلطة. فقد حرمت من ذلك تماماً في عهد دكتاتور تونس الأول بورقيبة وجردت منه في عهد دكتاتور تونس الثاني بن علي بعد انتخابات فازت فيها في عام 1989 فسلط عليها زبانيته قمعاً وقهراً إلى أن انتهى الأمر بأعضائها إما في المنافي أو في السجون أو تحت الثرى. ولا يلام أعضاء النهضة اليوم إن اجتهدوا ما في ظنهم أنه سيقيهم العودة إلى المعتقلات أو التشرد في المنافي تارة أخرى. 

إذن، الأغلب أن يكون دافع قيادة حركة النهضة الرئيس إلى الرغبة في الفصل بين الدعوي والسياسي هو تطمين الخصوم والمنافسين وليس حل إشكال تنظيمي داخلي، رغم احتمال أن يكون ذلك أيضاً سبباً وارداً. إلا أن الاكتفاء بالإعلان عن تحول النهضة إلى حزب سياسي لا يمارس العمل الدعوي والسكوت عن البديل الذي ستوكل إليه مهام الدعوي أثار فضول الكثيرين، وكان يتوقع أن يكون المؤتمر العاشر للحركة الذي انعقد في تونس في العشرين من مايو (أيار) فرصة لشرح هذا النموذج التونسي الجديد لمن يهمهم ما يجري في المنطقة. لكن الفرصة لم تكن متاحة بسبب انشغال أهل النهضة في أعمال مؤتمرهم، وهو أمر هم فيه معذورون بلا شك. 

الفكرة مثيرة والمشروع طموح، وكثيرون منا تجدهم في فضول لمعرفة كيف سيجري تنفيذه. أسئلة كثيرة تطرح وستطرح: إذا كانت هذه الحركة الإسلامية قد نشأت أساساً كدعوة إلى الإصلاح، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير، قد قررت التحول إلى حزب سياسي بحت – وما من شك في أن ممارسة السياسة يمكن أن تكون وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحتى الدعوة إلى الخير – فأين هو الكيان الذي ستناط به مهمة دعوة عامة الناس إلى الصلاح والإصلاح؟ وإذا كان الحزب سينظم ممارسة العمل السياسي، فكيف ستنظم عملية الدعوة ومن سيشرف عليها ومن سيرشدها أو يوجهها، ومن سيجني ثمارها داخل المجتمع ولصالح الحزب السياسي الذي ينشد التغيير نحو الأفضل؟ لقد اكتفى أهل النهضة بالقول إن هذه ستكون مهمة المجتمع المدني. ولكن هل تأسست المنظومة الديمقراطية التي تحمي المجتمع المدني من تغول الدولة؟ ومن الذي ستكون المساجد تحت إشرافه، وهي التي تقوم بدور مهم في التوجيه والتوعية وحتى التربية؟ هل ستحرر المساجد من قبضة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي تقيد النشاط في المساجد لصالح الفئة الحاكمة؟ 

لو أن قيادة النهضة أبقت على النهضة حركة إسلامية دعوية وأسست حزباً يكون ميداناً سياسياً لنشاط أتباعها لربما سهل علينا استيعاب الفكرة وتصور المشروع. لكن أن تتحول الحركة الإسلامية الدعوية إلى حزب سياسي بحت، وأن يصبح شيخاها الغنوشي ومورو سياسيين لا علاقة لهما بالدعوي، بينما يظل المجال الدعوي (التربوي والثقافي) غامضاً، فهو الأمر الذي ننتظر كشف الأيام لنا عن أسراره.