كتاب عربي 21

خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الشدة!

1300x600
في خطاب أمام جمع من منتسبي النقابة المقربة من حزب العدالة والتنمية  بمناسبة يوم العمال العالمي، وجه رئيس الحكومة المغربية السيد عبد الإله بنكيران الكلام لرجال السلطة في المغرب، ممثلين في القياد أساسا، وطالبهم بالرفق في تطبيق القانون، مذكرا بقضيتي قائدي القنيطرة المتهم بالاعتداء على بائعة متجولة بالشكل الذي أدى لوفاتها بعد إقدامها على إحراق ذاتها، وقائد الدروة الذي ضبط في غرفة نوم امرأة متزوجة ساومها على السماح لها بالبناء خارج الضوابط القانونية مقابل الجنس. بنكيران حاول مسك العصا من الوسط حيث طالب رجال السلطة بالابتعاد عن كل ما يمكنه الإضرار بصورة الدولة مع الإقرار بمخالفة الضحايا للقانون ابتزازا وللشرع الإلهي حرقا للنفس. لكنه  وجه، بالمناسبة،  تحذيرا واضحا أننا "لا نريد بوعزيزي آخر ولا نريد لأحد أن يحرق نفسه ولا أن يحرق أحد الوطن".

يوما واحدا بعد ذلك، تدخل أفراد من القوات الأمنية، بمدينة طان طان بالصحراء المغربية، لمنع طالب شاب كان يستعد لإضرام النار في جسده أمام مبنى عمالة المدينة، أكبر تمثيلية للسلطة بها. لم يكن فعل الشاب المقبل على الانتحار بالطريقة "البوعزيزية"، إلا واحدا من سلسلة عمليات تناسلت بشكل مثير في الأيام الأخيرة بالمغرب لعل أكثرها انتشارا كان إضرام بائعة البغرير "مي فتيحة" النار في جسدها قبل أن تلفظ أنفاسها أياما بعد ذلك، وهو نفس المصير الذي لاقاه سائق سيارة أجرة تفحمت جثته بمدينة طنجة في أقصى شمال المملكة.

ارتبطت أغلب عمليات الانتحار تلك بما أسماه المغاربة "الحكرة" التي طالت من انتحروا أو حاولوا من ممثلي الدولة وعلى رأسهم "القياد".

الحكرة عند المغاربة تعبير دارج عن الإحساس بالقهر والمهانة، والقياد هم الحلقة الأهم في بنية الإدارة الترابية الحديثة باعتبارهم الرتبة الأعلى في الهرم السلطوي في المواجهة المباشرة مع التدبير اليومي لشؤون المواطنين.  وكان القياد في التاريخ المغربي دوما رأس حربة الدولة المركزية في مواجهة أي تمرد قبلي أو انفلات أمني حيث كانوا  يمتلكون سلطات مطلقة في مناطق نفوذهم تمكنهم من الحصول على امتيازات كبيرة عبر منحهم نسبة معينة من الضرائب التي يجبرون السكان على أدائها لسلطة المخزن المركزية.

ونظرا لنجاعة هذا النظام، فقد عملت الحماية الاستعمارية على تقويته وتوظيفه في اتجاه خدمة مصالحها، مما أدى بها إلى منحه إطارا مؤسسيا قانونيا عممته بموجبه على مجموع التراب الوطني. وبعد الاستقلال، حافظ اسم "القائد" على مكانته وتم تطويعه ليتلاءم وضرورات تحديث العمل الإداري. لكن الاسم احتفظ برمزيته في الوعي الجمعي للمواطن المغربي في المدن كما البوادي:

خربوشة ماشي قصارة وركزة (خربوشة ليست رقصا ولا غنى)

خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الحزة (خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الشدة)

فينك أعويسة وفين الشان والمرشان (أينك يا عويسة "تصغير لاسم عيسى" وأين شأنك وبأسك)

تعديتي وخسرتي الخواطر وظنيتي القيادة على الدوام (بادرت بالعدوان واعتقدت القيادة لك دائمة)

في أيامك الجيد ما بقالو شان (في أيامك لم يعد للكريم شأن)

والرعواني زيدتيه القدام (والوضيع دفعت قدما)

سير أعيسى بن عمر أوكال الجيفة.. ويا قتال خوتو ومحلل الحرام (عيسى بن عمر يا آكل الجيفة ويا قاتل الإخوة ومحلل الحرام)

عمر الظالم ما يروح سالم (ما سلِم الظالم يوما)

ورا حلفت الجمعة مع الثلاث يا عويسة فيك لا بقات (أقسمت الجمعة يا عويسة بالانتقام)

أنا عبدة لعبـــــدة (أنا عبدة لعبدة "موطن قبيلة خربوشة")

ولسي عيسى لا.. (وأبدا لن أكون عبدة لعيسى)

بهذه الكلمات خاطبت الشيخة/المغنية خربوشة في عيطتها/أغنيتها القائد عيسى بن عمر، الذي كان واحدا من  أكثر القياد أهمية في الإمبراطورية الشريفة نهاية القرن التاسع عشر بإقليم عبدة. وبكلماتها تلك أعلنت التحدي وحرضت قبيلة  أولاد زيد، منتصف سنة 1895، على التمرد لحمل المخزن على عزل عيسى بن عمر وتولية قائد آخر مكانه  قبل أن تدور على قومها الدائرة وتجد نفسها في سجن عدوها وتقتل باعتبارها شاعرة للثورة. وهي القصة التي نقلها المخرج المغربي حميد الزوغي في فيلمه  (خربوشة - 2008).

على مدار أسبوع واحد امتد من التاسع من شهر أبريل الماضي إلى الخامس عشر منه، أحرقت "مي فتيحة" نفسها لأن قائدا "صفعها" وأهانها، وظهر قائد آخر في شريط يدلل على متاجرته جنسيا بتراخيص البناء، وحلق شيخ (مرتبة دنيا في الهرم السلطوي) شعر زوجته كاملا لرفضها زواجه من امرأة ثانية، ومنع قائد وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة من المشاركة في مهرجان خطابي لحزبه في الفضاء العام وأجبره على نقله لقاعة مغلقة. تلك قصص من بين أخرى تناسلت بشكل غريب يؤكد على أن دولة "القياد" لا تزال قائمة  ولو اختلفت الأساليب والمظاهر السلطوية عن زمن عيسى بن عمر وخربوشة.

ساسة هذا العصر قبل شعرائها مشغولون بالتحالفات الانتخابية وبإطلاق المشاريع الإعلامية والتنابز بالألقاب. لم يجمعهم ذاك الأسبوع غير المشاركة في جنازة ميلود الشعبي، ابن القنيطرة، التي عرفت وفاة "مي فتيحة" التي لم تنل من "قياد" الأحزاب غير كلمات التعبير عن الأسى لمصيرها واستغلال بعض من  صورها للتدليل على انتمائها الحزبي والتلميح لمصير قاتل النفس في الإسلام. لم نسمع لواحد من هؤلاء "القياد/قادة الأحزاب" ما يرقى لشجاعة امرأة عزلاء ما ملكت سلاحا غير آلتها الموسيقية وكلمات شعرها الثوري.

لقد تحولت الأحزاب بأطيافها من إعلانها محاربة الفساد والتحكم شعارا انتخابيا إلى البحث عن موقع لها في بنية التحكم والاستبداد. قاسمها المشترك الرغبة في إظهار الولاء وتقديم النفس حامية للنظام السياسي المغربي من الشارع تارة ومن تقية البعض تارة أخرى. وهي لعبة أتقن النظام السياسي المغربي دوما اللعب عليها. لكن "استثناء الاستقرار" الظاهر قد يخفي تحته غليانا شعبيا لعل من أبرز سماته الإقدام على تبني "البوعزيزية" نهجا وما قد يستتبع ذلك من انطلاق شرارات انتفاضات قد تطيح بوهم الاستقرار المغشوش وتدخل البلاد في أتون المجهول. وقد يكون فتح جبهات الصراع بين ممثلي السلطة والمواطنين سبيلا أولا ل"حرق الوطن" كما عبر عنه بنكيران.

وزير الداخلية المغربي محمد حصاد دافع، في قبة البرلمان يوم الثلاثاء الماضي، عن رجال السلطة إذ اعتبر أن لا مبرر للتحامل على الجهاز بأكمله بسبب "حوادث معزولة" قبل أن يسجل تناميا للاعتداءات على رجال وأعوان السلطة خلال السنوات الأخيرة، حيث ارتفع متوسط الاعتداءات على رجال السلطة من 43 حالة شهريا عام 2011 إلى 63 حالة شهريا عام 2015.

في فيلم (خربوشة – 2008)، وداخل سجن القايد عيسى بن عمر تدخل إحدى محظيات القصر لتجد جسد "طامو"، الخادمة العاشقة لأحد المطلوبين، مكبلة اليدين وآثار التعذيب بادية عليها.

المحظية: يالله! لقد أكرمتموها.

السجان: من ارتكب الذنب يستحق العقوبة.

المحظية: وعشيقها، ألم يخطئ؟

السجان: بلى.

المحظية: ولم لم يلق نفس المصير؟

السجان: هذه أوامر السيد القائد سيدتي.

المحظية: اذهب وائتني بالعبيد جميعهم ليروا ما حدث لطاموا علهم يعتبرون إن هم خرجوا عن الطوع.

لم يعد في البلاد عبيد، ومحاولة معاملة المواطنين كذلك يرتد على صاحبه. وما يحدث في مختلف دول المنطقة عبرة لمن يريد الاعتبار.

تواصل خربوشة الغناء:

مندوز بلادي راني زيدية (لن أسمح في بلادي فأنا زيدية)

على كلمة خرجت لبلاد واخرجت لحكام (بسبب كلمة تواجه السكان والحكام)

القهرة والظلام (القهر والظلم)

فينك ياعويسة وفين الشان والمرشان ؟ (أينك يا عويسة وأين شأنك وبأسك)

حرقتي الغلة وسبيتي الكسيبة وسقتي النسا كيف الاغنام (أحرقت الغلة وسرقت القطعان وسُقتَ النساء كالأغنام)

ويتمت الصبيان بالعرّام  (ويتمت صبيانا عددا)

سرجت للحق قلامي وسرت فطريق مظلاما مونس بنور العالي (وهبت للحق قلمي وسرت في طريق مظلمة أنيسها نور من الله)

نجهر بكلامي وفعالي كلمة على كلمة يتغير حالك وحالي (أجهر بكلامي وأفعالي  وكلمة كلمة تتحسن أحوالك وأحوالي)

خربوشة ماشي قصارة وركزة (خربوشة ليست رقصا ولا غنى)

خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الحزة (خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الشدة).

خربوشة دفنت حية في الفيلم والابتسامة لا تفارق وجهها، وفي الخلفية نسمع أشعارها تتردد على الأسماع دلالة على أن الثورة في ظل الاستبداد السلطوي  قادمة لا محالة.