قضايا وآراء

البورقيبية باقية وتتمدد.. هل البورقيبيبة هي الحل؟ (3)

1300x600
بعد رحيل المخلوع في 14 جانفي 2011، وأمام  دخول الإسلاميين إلى الحقل السياسي"القانوني"من جهة أولى-عبر حركة النهضة حزب التحرير-، وخوفا من سيطرتهم شبه المطلقة على المساجد  وتهديدهم لسلطة الدولة باعتبارها المحتكر الأوحد للقوة الشرعية –عبر التهديدات الآتية من  السلفية الجهادية خاصة-، أحسّت النخبة الحداثية  على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية بأنّ ما كانت تعتبره ضربا من "الترسيب" Sédimentation  حسب مصطلح هوسرل- أي تلك القضايا التي لم تعد تثير نقاشا في المجال العام -كما يقول الباحث بوبي.س.سيد- من مثل الدولة-الأمة، مجلة الأحوال الشخصية،  الأساس الوضعي للقانون، سيطرة الدولة على الفضاءات الدينية وغير ذلك من أسس الدولة التونسية الحديثة- قد تعرضت للتشكيك ، بل للتسفيه من طرف أغلب القوى الإسلامية وإن بدرجات متفاوتة.

بعد الانتخابات التأسيسية في أكتوبر 2011، ومع تزايد الاصطفافات الهووية واحتدام الصراعات الثقافوية، لم يكن من الصعب في ذلك السياق الصدامي المنفتح على أكثر من إمكان كارثي أن يجد اسم "بورقيبة" مكانا مركزيا في المشهد السياسي العام، باعتباره "منقذا" للجمهورية الثانية من إمكانات الانحراف التي تتهددها. وقد أدى اسم بورقيبة أدوارا كثيرة إذ مثّل المعبر إلى شرعنة العلاقة الاستبدالية بين التجمعيين والدستوريين، كما وُظّف في تغذية الاصطفاف على أساس هووي وفي فتح المجال للتطبيع مع رموز المنظومة التجمعية-النوفمبرية باعتبارهم ورثة البورقيبية و"ضحايا" نظام بن علي مثلهم في ذلك كمثل التونسيين جميعا . 

لو استعملنا مفهوم ماكس فيبر لقلنا إننا نعيش في تونس صراعا بين ثلاثة نماذج مثالية تحدد عناصر الخطابات المتعلقة بالبورقيبية، وتتحكم في رهاناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية،  أو لنقلْ إننا أمام ثلاث استراتيجيات استردادية للبورقيبيبة من مواقع –ولأسباب- مختلفة بل متناقضة أحيانا، وهذه الاستراتجيات التي أدمجت البورقيبية في مستوى مشاريعها للهيمنة هي"البورقيبيات" التالية:

1-البورقيبية المريضة: الباجي قائد السبسي أو الرجل العابر للانقلابات والثورات

البورقيبية المريضة أو الضعيفة هي تلك البورقيبية التي ترتبط بالفترة الأخيرة من حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، وهي فترة شهدت اضطرابات كبيرة نتج بعضها عن  مفاعيل الصراع الذي خاضه النظام ضد الإسلاميين، ولكن أغلبها ارتبط بالوضعية الصحية الهشة للرئيس بورقيبة الذي بلغ مرحلة من العمر، جعلته عاجزا عن السيطرة على مراكز القوى المتصارعة على وراثته داخل القصر وخارجه.

منذ أن كان رئيسا للحكومة المؤقتة التي أعقبت حكومتي محمد الغنوشي سنة 2011،  حاول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أن  يظهر في صورة"رجل الدولة" المستجيب لـ"نداء" الواجب الذي تربى عليه في "المدرسة البورقيبية". لذلك لم يضيّع  السيد قائد السبسي فرصة واحدة لربط مشروعه الحزبي وصورته الشخصية بالزعيم بورقيبة  (السلطة الكاريزمية والنزعة الأبوية للزعيم، المراوحة بين الدارجة والفصحى والفرنسية، تونسة الخطاب بضرب الأمثال الشعبية، اعتماد الاقتباس من المخزون الديني، مسرحة الحضور، تكريس صورة المنقذ والمخلّص...إلخ). 

في الانتخابات الرئاسية التونسية التي جرت سنة 2014، أقام السيد الباجي قائد السبسي حملته الانتخابية على جملة من المحاور التواصلية التي كانت كلها مرتبطة بالإرث البورقيبي(الحياد الإيجابي في مستوى السياسة الخارجية، إعادة هيبة الدولة، الدفاع عن الهوية التونسية وعن النمط المجتمعي، حماية حقوق المرأة وتعزيزها ، معارضة الرجعية الدينية-خاصة حركة النهضة-والتحالف من القوى الديمقراطية اليسارية ...إلخ)، وهي محاور حاول تعزيزها "بصريا" بالتشبه المرضي بالزعيم بورقيبة حتى في مستوى اللباس والنظارتين وغيرهما. ولكن هذه البورقيبية مثل كل الأطروحات المنافسة لها تظل تعاني من "كعب أخيل" الذي يمثله صمتها تجاه ممارسات النظام السابق ضد الزعيم بورقيبة ، بل دخولها في خدمة ذلك النظام وكأنّ بورقيبة لم يكن.

يمكننا أن نقول بأن هذه البورقيبية التي ورثت أمراض البورقيبية (من مثل الزعاماتية والبنية الجهوية للسلطة والنظرة الاستعلائية للدواخل، الرغبة في مركزة السلطة بين يدي فرد، عدم الفصل بين الحزب والدولة، إلى جانب تقدم السيد الباجي قائد السبسي  في السن وعدم قدرته صحيا على إدارة مقاليد الحكم كما ينبغي وضرب مراكز القوى المتصارعة داخل القصر وخارجه)، قد ورثت بالإضافة إلى ذلك نقاط قوة البورقيبية التأسيسية وفعاليتها من مثل البراغماتية وعدم الخضوع لأي نسق أيديولوجي مغلق، وقدراتها التواصلية العالية (حيث تكون الحقيقة في السياسة هي ما يقنع وليس ما يوافق الواقع). وهي بورقيبية انفتحت على الإسلاميين (ممثلين في حركة النهضة التي هي جزء من الرباعي الحاكم)، ولكنه انفتاح "هش" وغير مؤصل نظريا ولا مضمون في مستوى الثقافة السياسية للفاعلين الكبار، ممّا يعني إمكانية الانقلاب أو الالتفاف عليه في حالة غياب الشخصية "الضامنة"-أي الرئيس السبسي- أو في صورة تغير موازين القوى المحلية واستراتيجيات مراكز القرار الإقليمية والدولية.

2-البورقيبية الهوية-الصدامية
البورقيبية الهوورية هي تلك الخطابات والاستراتيجيات اليسارية التي تشتغل أساسا على ترسيخ"أسطورة" المشروع المجتمعي التونسي، انطلاقا من مقاربة ثقافوية تختزل "المشروع" كله في "مفتاح" دلالي واحد هو التعارض مع الإسلاميين –خاصة حركة النهضة-. ويمكننا أن نقول بأن هذا الخطاب هو ما يحكم زعيم "مشروع تونس" محسن مرزوق. فالسيد محسن مرزوق الذي أدى بعد الثورة العديد من الأدوار"المشبوهة" في مستوى تعطيل استحقاقات الثورة، وفي مستوى التطبيع مع المنظومة القديمة أو في مستوى ضرب الانتقال الديمقراطي، ودعم أغلب محاولات الانقلاب الناعمة والعنيفة عليه، هو شخصية سياسية حاولت دائما أن تراكم رأسمالها الرمزي انطلاقا من "المزايدة المحاكاتية" Surenchère Mimétique –أي المزايدة على المنافسين في الوفاء للزعيم  أو للمرجع الأعلى والنهائي للمعنى السياسي، بل لمعنى الوجود الفردي والجماعي ذاته -. وهو ما يظهر خاصة في العلاقة بالحداثة وبالتراث البورقيبي المتعلق بحماية مكاسب المرأة وتعزيزها-بالمعنى البورقيبي التغريبي لكلمة مكاسب، أي ذلك المعنى الذي يختزل "الإنجازات" في مستوى مجلة الأحوال الشخصية، وفي مستوى المرأة المدينية والبرجوازية، ويهمش الوضعية الكارثية للمرأة الريفية أو المرأة الرافضة للاندراج الطوعي في هذه الفلسفة السياسية-. 

بسبب إدارة الصراع  والتسويق له على أساس أنه صراع بين مشروعين مجتمعين، تم تحصين مصالح البرجوازية المرتبطة بالمنظومة التجمعية التي قامت عليها الثورة، كما زودتها هذه الاستراتيجيات الانقلابية بأقلام وعقول "تقدمية" تستطيع أن تدافع عن تلك المصالح باعتبارها مصالح "وطنية عليا"، لا  مجرد مصالح فئوية أو جهوية ضيقة، بل إن السيد مرزوق لم يكن يتوانى عند ظهوراته الإعلامية في دمغ كل محاولة للتذكير باستحقاقات الثورة-من مثل رفض تغول المؤسسة الأمنية، ورفض العودة النسقية للتعذيب في مراكز الإيقاف وغيرها، أو محاولة تمرير قوانين مصالحة اقتصادية ذات آثار كارثية على مستقبل الدولة الاقتصادي وعلى مصداقيتها لدى الجهات المانحة-، بكونها  تهديدا مباشرا "للنمط المجتمعي" واصطفافا ضمنيا في صف القوى المعادية للدولة، أو تبييضا للإرهاب أو خروجا عن "السياق الوطني". وهي استراتيجيات "ترهيب لغوي" لا يمكن أن ننكر على السيد مرزوق ومن معه رسوخهم فيها. 

يمكن لسهولة التنقل بين المنظومتين الليبرالية واليسارية الذي يطبع السلوك السياسي للعديد من النخب "التقدمية" التونسية، أن يجعلنا نتنبّأ بأن الوظيفة الأساسية للبورقيبية في قراءتها "اليسارية الثقافوية" هي توفير الغطاء الفكري للمزايدات المحاكاتية اللازمة من أجل منافسة نداء تونس على قاعدته الانتخابية، وافتكاك أكبر قدر ممكن من تلك القاعدة الانتخابية بدعوى الوفاء للمشروع البورقيبي الذي خانه الباجي قائد السبسي بتحالفه مع حركة النهضة الإسلامية وعدم الوفاء بوعوده لأصحاب"الانتخاب المفيد" من اليساريين، كما يمكننا أن نتنبّأ بأن الحليف الأوثق لـ"مشروع" مرزوق في الفترة السابقة، سيكون الجبهة الشعبية وحزب المسار وسائر الأحزاب اليسارية التي ارتدت عن الصراع الطبقي وعن المشروع التحرري للماركسية، واختزلت فعلها السياسي في "محاربة الرجعية الدينية" حتى لو كانت تلك الحرب في خدمة البرجوازية اللاوطنية، التي كانت ومازالت هي المتحكم الفعلي في دواليب الحكم (الظاهرة والخفية)، وهو ما يجعل من هذا "المشروع" سببا من أسباب إفساد الحياة السياسية، بل سببا من الأسباب التي قد تُفضي إلى فشل الانتقال الديمقراطي، وهو ما تتزايد المؤشرات الدالة عليه يوما بعد يوم.

3-البورقيبية الاستيهامية أو البراغماتية
البورقيبية الاستيهامية هي تلك الخطابات التي تشتغل عبر إيقاع الوهم على الذات الناطقة-وهي هنا الذات النهضوية- في علاقتها بالإرث"البورقيبي". إنه وهم يؤسّسه التسليم باستحالة التطبيع مع الحقل السياسي التونسي إلا عبر بوابة التطبيع مع البورقيبيبة. وقد يكون لهذا المنطق ضرب من الوجاهة النظرية ومن التسويغات العملية التي تجعل منه اختيارا أكثر عقلانية من غيره. ولكننا نرى أنّ مسارعة النهضة إلى التطبيع مع "البورقيبية" قد حجب عدة ممكنات أخرى لا تقلّ قدرة على تحقيق النتيجة ذاتها، مع تجنيبنا العودة إلى مربع الجمهورية الأولى ورمزياتها التأسيسية. 

ينطلق تطبيع النهضة مع البورقيبية من جملة من المسلمات أو البداهات وتنسى أنّ البداهات السياسية هي في التحليل الأخير مجرد "نتاج تراث ثقافي معين"، كما يقول أحد الباحثين. فالنهضة قد سلّمت للخطابين البورقيبين الأولين (أي للبورقيبية المريضة والبورقيبية الهوورية) بوجود علاقة استبدالية –أي علاقة يتمتع طرفاها بالقيمة نفسها- ، وهي علاقة "ضرورية" وكاملة بين البورقيبية من جهة أولى، والحركة الإصلاحية أو الحركة الوطنية من جهة ثانية. كما سلّمت النهضة لهم أيضا بوجود علاقة استبدالية بين البورقيبية الدستورية والتجمعية-النوفمبرية ، وهو ما فتح الطريق واسعا أمام العودة المظفّرة لرموز النظام السابق، ونجاحهم في احتلال مراكز الفعل السياسي والإعلامي والنقابي تحت غطاء"البورقيبية" والعائلة الدستورية وحماية"النمط المجتمعي".

لعلّ ما سهّل توظيف البورقيبية في ضرب أي إمكانية جادة للخروج من نقائص الجمهورية الأولى-مثل عبادة الزعيم، النوازع الاستبدادية لدى ساكن قرطاج، التنمية الجهوية اللامتكافئة، التداخل بين الحزب والدولة وتغول الأجهزة الأمنية ...إلخ-، هو عجز النخبة التونسية-أو عدم مصلحتها واقعيا - في فك العديد من الارتباطات المغالطية او الاختزالية بين البورقيبية وغيرها من النقاط المضيئة في التاريخ التونسي الحديث. فنخبة "النمط المجتمعي" كانت قد اختزلت الحركة الإصلاحية والحركة الوطنية في بورقيبة، ثم اختزلت الدولة –الأمة في الزعيم نفسه، وزادت على ذلك بأن اختزلت التحديث في البعد الثقافي، واختزلت الثقافي في التشريعي، واختزلت التشريعي في مجلة الأحوال الشخصية التي أصبحت العلامة الفارقة على "النمط المجتمعي التونسي". وقد كانت النهضة قادرة -بقليل من المخاطرة ومن الابتعاد عن المجهود الذهني الأدنى الذي غلب على نخبتنا"الحداثية" – على أن تفكّك هذه الترابطات "العفوية" أو "المغالطية-الاختزالية"، وعلى بناء "التطبيع" مع المجتمع ونخبه باعتماد سند متصل مع الحركتين الوطنية والإصلاحية خارج التجسيد البورقيبي لهما، أو بالأحرى خارج الاحتكار البورقيبي لهما. وقد يكون زهد النهضة في هذا الخيار الاستراتيجي سببا في حرمانها من المساهمة الفعلية في بناء الجمهورية الثانية، إذ إن الارتهان إلى الميراث البورقيبي باعتبارها "الخطاب الكبير" سيجعلها مطوّقة بـ "دَين المعنى"(بل دَين الوجود) لسدنة ذلك الميراث، الذين لم يكونوا يوما أداة مثالية في إدارة الاختلاف أو في تحمله، كما لم يكونوا يوما مثالا للمبدئية أو للوفاء للعهود، بدءا من عهدهم للزعيم بورقيبة الذي انقلبوا عليه بعد 7 نوفمبر 1987.

أي معنى للبورقيبيبة في الجمهورية الثانية؟
ختاما، من المؤكد أنه لا يمكن أن نختزل البورقيبية وأن نشيطنها اعتمادا على مسرد من الاعتراضات"الفقهية"، كما لا يمكن أن تؤمثل وأن نسلّم بصلاحيتها لتأسيس الجمهورية الثانية بشواهد من المكاسب الحقوقية-خاصة حقوق المرأة-، فالبورقيبية هي نظام سلطوي وخيار تحديثي ينبغي علينا التعامل معه تعاملا موضوعيا، بعيدا عن كل المقاربات الاختزالية المؤدلجة. لقد كانت البورقيبية "مشروعا" لتحرر الإنسان بعد تحرير البلاد، ولكنه مشروع انحرف عن تلك الطموحات التأسيسية بطريقة نسقية كان انقلاب 7 نوفمبر هو مرحلتها القصوى، وكانت ثورة 17 ديسمبر هي اللحظة التي آذنت بنهاية صلاحيتها وصلاحية الجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية؛ ولذلك  ينبغي على جميع المتصارعين على الإرث البورقيبي أن يعوا أنّ الطريقة الوحيدة للوفاء لهذا الزعيم، هي تجاوزه تجاوزا جدليا في إطار مشروع مواطني اجتماعي، لا الاعتماد عليه اعتمادا مرضيا هو أقرب إلى حالة "الرضع الدائمين" Les Nourrissons Eternels، تلك الحالة التي هي أعدل المشاعر قسمة بين نخبنا التي تدعي النضج وخصوبة الخيال والقدرة على نحت المفاهيم وصياغة البدائل.