قضايا وآراء

محنة التفكير (1)

1300x600
لم أجد على مدار عمري الذي امتد لنصف قرن أكثر متعة وأشد روعة من استخدام المرء لعقله وقدح زناد فكره كي يستخلص عبرة أو ينتج فكرة أو ينطق بحكمة أو يشير برأي أو يوجه بنصح أو حتى يشرق وجهه بابتسامة أو تلمع عيونه بخاطرة تعجز عن وصفها الكلمات.

وكلما جالست الأذكياء شعرت بنعمة من الله عظيمة وبمنحة لا تجاريها في عظمتها منحة أخرى، فلا المال ولا المنصب ولا الجاه كلها تسد جوعي ولا تروي ظمأي للمعرفة والفهم والعمق والتفكر.
أما الغباء والعياذ بالله فهو نقمة أي نقمة، ومحنة أي محنة، ومرض عضال أصاب ماكينة الفهم، عطل خلايا الرأي، وافترس منظومة الآدمية فحول حامل فيرس الغباء إلى حيوان ناطق بل أضل سبيلا. 

معركتي مع الفهم مستمرة وطويلة من بدايات الوعي الأولى في سنين الصبا، وامتدت المعركة وأنا في العشرينيات من عمري حين بدأت رحلة البحث عن الجماعة، نعم  جماعة المسلمين التي أمرنا الرسول الكريم بالتزامها وعدم مفارقتها حتى نلقى الله وفي اعنقانا بيعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.

معركتي مع الفهم بدأت في اللحظة التي كنت أبحث فيها عن الجماعة  التي كانت تتراءي أمام عيناي وكأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقودها وعن يمينه أبو بكر وعن يساره عمر ومن حوله عثمان وعلي ومعاوية وخالد وسعيد وبن عبادة وبن معاذ وذاك الرجل الذي اتبعه بن عمر رضي الله عنه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يدخل عليكم رجل من أهل الجنة، فأراد بن عمر رضي الله عنه أن يعرف سره فما كان سوى أن الرجل يبيت وليس في قلبه غلا ولا حقدا على أحد، هكذا كنت أتشوق وأتطلع الى يوم أكون فيه وسط نخبة من مثل هؤلاء وإن اختلفت الأسماء وتغيرت السمات.

أدركتُ في رحلة البحث تلك أن العقل المسلم على وجه الخصوص وكأنما تم اختطافه ثم تم استبداله بعقل آخر ثم اعيد زرعه في رؤوسنا من جديد. 

كنت أطرح أسئلة بسيطة فأجد اجابات معقدة وملتوية وملفوفة وغير واضحة بل ملتبسة وتدعوك إما إلى الجنون أو إغلاق عقلك وعدم استعماله لأن استعماله أحيانا قد يضعك في خانة الكفر أو الزندقة أو النفاق والعياذ بالله- على الأقل من وجهة نظر من توجهت إليه بسؤالك البسيط والتلقائي.
 
دخلت معارك مع هؤلاء الذين احتكروا الدين ونصوصه وانتزعوا من العلماء المجتهدين حق الشرح والتفصيل والتأويل والتفسير وحاولت قدر جهدي في العقد الثاني من عمري أن أفهم كيف يفكر هؤلاء، وطرحت أسئلة عن المؤهل العلمي والتخصص والمنتج الفكري لهؤلاء فلم أجد سوى عبارات فضفاضة وتمسح بمظاهر الدين من زي وشكل واستخدام للنصوص  في غير موضعها في محاولة للهروب من الاجابات الصادمة والتي تهدم بنيان هؤلاء المعرفي والفكري إن وجد.

أدركتُ مبكرا أن الأمة مصابة في عقلها وفي طريقة تفكيرها حين سلمت نفسها طواعية لمجموعة ممن يسمون بالنخبة ولا أستثني من ذلك طيف أو تيار فكل نخبنا في الهم شرق، وكنت أسأل نفسي أحيانا بل كتبت يوما ما مقالا حول تصريحات فاروق حستي وزير ثقافة المخلوع مبارك والتي اتهم الحجاب بأنه سبب تخلف الأمة وقلت فيم أذكر هل لو خلعت نساؤنا الحجاب وأرتدين المايوه سنصعد غدا على سطح القمر؟ ثم لماذا لم تصعد النخبة التي خلعت حجابها إلى القمر أو إلى المريخ أو أي مكان في العالم المتقدم؟ 

وكما نقضت بعض أفكار النخب الليبرالية كنت ولا زلت أقف موقف العالم الجليل الشيخ محمد الغزالي من بعض الفتاوى الشاذة التي تولى كبرها نفر من المسلمين منحوا أنفسهم لقب (الشيوخ)، وكنت أتعجب حين أرى كتيبا صغيرا أو متوسط الحجم من ورق مصقول وبألوان فائقة الجودة وبلغات عالمية يتحدث عن حرمة التصوير، والمفاجأة انه يوزع في بلد فقير يعاني من مجاعة وحرب أهلية مثل الصومال أو ببلد يأوي ملايين المهاجرين واللاجئين مثل كينيا المجاورة، علما بأن ثم نسخة واحدة يكفي لإطعام اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الجوعى واللاجئين. 

كانت الآراء التي تتحدث عن أمور فقهية مختلف عليها منذ قديم الزمن تستفزني ولا تزال، وأشعر حين يعاد طرحها أن شخصا ما أو جهة ما تريد أن تختطف عقولنا من جديد وتريد أن تهوي بنا في مكان سحيق قد نحتاج إلى عشرات السنين حتى ندرك أين نحن ومثلها حتى نجيب على السؤال المهم وهو ليس كم لبثنا بل كيف نخرج من هذا التيه؟
 
هذا هو السؤال المهم في هذه السلسلة من المقالات حول محنة التفكير، كيف نخرج من هذا التيه الذي ألقينا فيه أنفسنا أو ألقينا فيه رغما عنا؟ ولكن المهم هل ندرك حقا أننا في مرحلة التيه. 

نكمل في المقال القادم إن شاء الله.