قضايا وآراء

عين أردوغان على تكريس النظام الرئاسي في الدستور التركي

1300x600
لم تعد المسافة بعيدة بين حزب العدالة والتنمية وتكريس النظام الرئاسي في وثيقة الدستور التركي.

فالانتخابات التشريعية الأخيرة منحت أغلبية الرئيس التركي طيب أردوغان 317 مقعدا، ولم يعد يفصلها عن النسبة المطلوبة بمقتضى الدستور سوى ثلاثة عشر صوتا لمنح الرئيس حق طرح تعديل الدستور على الاستفتاء الشعبي، والحقيقة أن رهان إدخال تغييرات جوهرية على وثيقة الدستور شكل أولوية فضلى في البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية منذ بداية تصدره المشهد الحزبي والسياسي عام 2002.

لنتذكر أنه منذ صدور دستور 1982 - أو "دستور الانقلاب" كما يسميه عدد يسير من الأتراك - شهدت الوثيقة واحدا وعشرين تعديلا، تحققت مجملها خلال حكم حزب العدالة والتنمية، أما دواعي ذلك، فكثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بمواكبة الدستور التطورات العميقة الحاصلة في بنية المجتمع السياسي والمدني التركي، وأخرى لها صلة بطموحات قادة حزب العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم طيب رجب أردوغان، إلى أعادة بناء "عثمانية جديدة" بسياق ولون جديدين.

لم يعد خافيا أن عين حزب العدالة والتنمية، كما لم يتردد زعماؤه في التأكيد على ذلك، تريد استبدال نظام رئاسي، بالبرلمانية القائمة منذ دستور العام 1921، بحيث تحظى مؤسسة الرئاسة بمكانة مميزة، تسمح لها بالإدارة الفعلية للبلاد، وتقلص مساحات تدخل القوى الأخرى، وعلى رأسها الجيش، في تدبير الشأن السياسي.

أما إذا تحقق رهان تكريس النظام الرئاسي في نص وثيقة الدستور، فستفتح إمكانيات كبيرة أمام تطلعات حزب العدالة والتنمية، سواء تعلق الأمر بالتصدي  لحزب العمال الكردستاني وتقليم أظافره، أو في ما يخص تمدد تركيا أفقيا في كردستان العراق، والمحافظات السورية المتاخمة لحدودها، باسم محاربة الإرهاب ومقاومة تنظيماته.

لننظر إلى مسألة الإصلاح الدستوري من زاوية أوسع ونتساءل: هل تحتاج تركيا في ظل التغيرات العميقة التي طالت أبنيتها العامة، إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يكرس الدستور أهم توافقاته؟ وهل يقدر حزب العدالة والتنمية على قيادة عملية بناء التوافق حول التعاقد الجديد، أي الدستور الجديد؟

لاشك أن مسوغات دعوة حزب العدالة والتنمية إلى إدخال تغييرات جوهرية على دستور 1982، مبنية على تقديرات مفادها أن تركيا شهدت تحولات عميقة في العقود الأخيرة، وأنها تحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يعكس طبيعة هذه التطورات، ويعبر بدرجة أساسية عن مشاركة المواطنين في التعبير عن تطلعاتهم في رؤية هذه التغييرات مكرسة في نص الوثيقة الدستورية، سواء تعلق الأمر بالعلاقة الجديدة المنشودة بين المؤسسات الدستورية المدنية ومؤسسة الجيش، أو في ما يخص إصلاح المؤسسات الدستورية نفسها، من قبيل تقوية مكانة الرئيس، وإعادة النظر في السلطة القضائية بمختلف مستوياتها، أو ما يرتبط بالحقوق والحريات الفردية والجماعية، وأيضا ما يخص مفهوم العلمانية، وإعادة تكريسه في الدستور.

يتبين إذن أن تركيا أمام معركة حقيقية حول الدستور، وأن الرهان الناظم لخطاب الإصلاح لا يروم إدخال تعديلات من الدرجة الثانية، بل يتوخى تغيير عمق الفلسفة الدستورية التي بنيت عليها وثيقة العام 1982، التي  صيغت في سياق انقلاب  الجنرال كنعان إيفرين في 12 أيلول/ سبتمبر 1980، بيد أن المعركة وإن كانت محكومة برهان التغيير الجوهري للوثيقة الدستورية لا التعديلات العرضية، فإنها مرتبطة أشد الارتباط بكثير من المتطلبات التي ستحد دون شك من سقف هذا الإصلاح وأبعاده، وتلزمه بمعنى ما بعدم تجاوز الخطوط المتوافق عليها تاريخيا في المجتمع التركي.

ففي المقام الأول يظهر جليا أن الإصلاح الدستوري الذي يهدف حزب العدالة والتنمية إلى أن يكون عميقا وتاريخيا، يصعب على دعاته ومناصريه تجاوز الإرث الدستوري المتراكم منذ صدور القانون الأساسي سنة 1876، وما  تعاقبت عليه من دساتير وتعديلات دستورية. فالحاصل أن تركيا راكمت تقاليد وممارسات دستورية تحولت بالتدريج إلى شبه " ثوابت" متوافق عليها، كما هو حال الطابع العلماني للدولة والسلطة والمؤسسات.

نلمس ذلك في دستور 1921، الذي استمر على فلسفته ونهجه على منوال دستور العام 1876، ومن المعلوم أن هذه الوثيقة ذاتها، تأثرت بشكل عميق بالموجة الدستورية التي أعقبت الثورة الفرنسية لعام 1789، والمفاهيم والمبادئ المتولدة عنها. ثم إن دستور 1924، الذي أعقبه انهيار الدولة العثمانية والإعلان عن قيام الجمهورية التركية، كرس الطبيعة العلمانية الجديدة للدولة والمؤسسات، وهكذا استمرت التعديلات اللاحقة مؤكدة للعلمانية، ومشددة على ضماناتها في الوثيقة الدستورية، وحامية لها على مستوى الممارسة، أي في الحياة اليومية للمواطنين. ففي الإجمال أصبحت العلمانية جزءا ناظما للثقافة السياسية للمجتمع التركي، وكل تعديل يروم المس بهذا المبدأ زيادة أو نقصانا لن يجد طريقه إلى القبول والتطبيق.

يتعلق المتطلب الثاني بمؤسسة الجيش والأدوار المنوطة بها في الحياة السياسية العامة التركية، فمما لا شك فيه أن الجيش ظل رقما مهما في المعادلة السياسية التركية منذ تأسيس الدولة القومية الحديثة (الدولة الكمالية)، وقد ظل العسكر ملتحمين بالسياسة بشكل مباشر أو غير مباشر، بل تحول حضورهم شبه ثابت في المخيال الاجتماعي على أنهم يتولون حماية العلمانية و ضمان احترامها في الممارسة، وأن إضعافهم و استبعادهم سيكون الأثر العميق على واقع العلمانية في مجتمع تركي  مركب ومتعدد.

لهذا كله، إذا كان في مكن حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسه "طيب رجب أردوغان" أن ينقل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، فلن يكون في مستطاعه المساس بالعلمانية وحضورها الكثيف في حياة الناس، كما لن يقدر على " تحييد Neutralisation  العسكر بشكل مطلق، وإن استطاع إضعاف دورهم.. لأن العلمانية والجيش مترادفان في المخيال الاجتماعي التركي.