قضايا وآراء

فرنسا بين دولة القانون والدولة الأمنية

1300x600
لم تتوقف النقاشات في فرنسا منذ الأحداث الإرهابية التي ضربت العاصمة باريس يوم الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 . وبين مؤيد لاتخاذ إجراءات قوية وصارمة لاسترجاع الأمن واستتبابه، ومُعترِض على نوعية الإجراءات المُعلَن عنها ومخاطرها على حقوق  الناس وحرياتهم، تجتاز فرنسا مرحلة اختبار دقيقة وحسّاسة للغاية. فالواضح أن الطبقة الحاكِمة سائرة، دون تراجع، في خيار تقوية سلطات الأجهزة الأمنية والإدارية، وتخويلها، بالقانون، الوسائل والآليات التي تمكِّنها من تأدية دور استباقي  لمواجهة الإرهاب وتجفيف منابع نشاطه.. وللمرء المتابِع لما يجري في فرنسا إحصاء المبادرات التي أقدم عليها رئيسها " فرانسوا هولاند"، وطاقم وزرائه في الداخلية، والعدل، والدفاع، ومؤسستي البرلمان ومجلس الوزراء، ناهيك عن محافظي الولايات ومن دونهم درجة.. فقد ظلت الكلمة المفتاح في كل خطب القادة الفرنسيين وتصريحاتهم منذ وقوع الأحداث الإرهابية الأخيرة، أن ما تعرضت له العاصمة باريس "هو بمنزلة حرب، وعلى فرنسا أن تواجهه بمنطق الحرب، أي بأدوات الحرب ووسائلها، وليس بغير هذه الإرادة".

لم ينتظر الرئيس الفرنسي كثيرا ليُعلن اللجوء إلى "حالة الطوارئ"، ويستتبعها بتدابير تطبيقية وتنفيذية، خَوّلت محافظي الولايات، وأجهزة الأمن والشرطة والدرك، ومن في حكمها سلطات واسعة لمتابعة المشتبَه فيهم في أي مكان وفي أي وقت.. وهو ما حصل فعلا ولازال مستمرا على امتداد ربوع فرنسا، حيث تمت مداهمة عشرات المنازل، واعتُقِل الكثيرون واستُدعي ذووهم وأقاربُهم، واستُمِع لإفادات وشهادات العديد ممن حامت حولهم شُبهات أو شكوك.. والحال أن الأرقام محددة ومُعلن عنها من  لسلطات ذات العلاقة. ثم إن بمقتضى حالة الطوارئ، التي يُراد لها أن تكون متضمّنة بنص صريح في وثيقة الدستور، أجيز للأجهزة الأمنية والضبطية اقتحام حُرمات المنازل، ومتابعة الأشخاص نهارا  و ليلا، دون استئذان ولا سابق إصرار، والأخطر لم يعد معمولا بالضمانات المنصوص عليها في القانون والإجراءات الجنائية، كما أن حقوق المحاكمة العادلة المعترف بها، والمتضمنة في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان لم يُكترث بها، باسم " حالة الطوارئ" ومحاربة الإرهاب.

من حق فرنسا، كما من حق أي بلد من غير فرنسا، أن يُدافع أن أمنه واستقراره، بوصفهما من لوازم العيش المشترك التي تندرج جوهريا في وظائف الدولة وواجباتها. لكن من واجبات صناع القرار أن ينتقوا الوسائل والآليات التي تحقق الأمن دون التفريط في الحقوق والحريات الفردية والجماعية، لاسيما إذا تعلق الأمر ببلد يحسب نفسه منبع فكرة حقوق الإنسان والمواطن، وأحد الساهرين على إشاعة قيمها تاريخيا وثقافيا. فالفرنسيون لم يترددوا ولن يترددوا في المفاخرة بكون بلدهم موئل حقوق الإنسان، والساهر الأمين على توطينها وديمومتها، بل يتفاخرون بإعطاء دروس للبلدان التي غدا عصيّا عليها التصالح مع فكرة حقوق الإنسان.. لنتذكر واحدة من هذه الدروس حين خاطب الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتران" الرؤساء الأفارقة أو من  يمثلهم في قمة "لابول"   La  Baule  الفرنسية-الإفريقية السادسة عشرة بتاريخ 20 حزيران/ يونيو 1990، بأن "ريح الحرية هبّت على الشرق، أي شرق أوروبا، وعليها أن تهب حتما على الجنوب"، قاصدا الدول الإفريقية. ومن هنا أشترط من القادة الأفارقة إصلاح نظمهم، وإقرار الحريات وتوسيعها لتغدو بلدانهم ديمقراطيةً على شاكلة فرنسا ومن في حكمها.

فرنسا إذن ماضية في مواجهة حرب الإرهاب بمنطق الحرب ووسائلها. ومن الواضح  أنها  سائرة في تطويع القانون لخدمة المقاربة الأمنية لمكافحة الإرهاب . لذلك، أعلنت "حالة الطوارئ" لشهر، ومددتها لثلاثة  أشهر أخرى، وهي مُصممة على تعديل الدستور لتصبح "حالة الطوارئ" مُقننة بوثيقة الدستور وليس بنص عادي، يرجع تاريخُه إلى العام 1955، أي قبل قيام الجمهورية الخامسة نفسها. كما أنها عازمة على مراجعة النصوص التشريعية ذات العلاقة، وفي مقدمتها القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، بما يطلق أيادي رجال الأمن ومن في حكمهم، ويقيد سلطة القضاء والقيمين عليه. فهل يعني هذا أن فرنسا تتحول تدريجيا من دولة قانون إلى دولة بوليسية أو أمنية؟.

ليست "حالة الطوارئ" بدعة  مُستحدثة في فرنسا، إنها وسيلة قديمة ابتدعها الفرنسيون سنة واحدة بعد انطلاق حرب التحرير الجزائرية في 1955،  حيث كان سياقها وقتئذ واضحاً ومقبولاً  من فئات واسعة من الشعب الفرنسي، وقد تم اللجوء إليها ست مرات ما بين هذا التاريخ  و 14 نوفمبر / تشرين الثاني 2015. أما إقرارها في الدستور فقد باءت محاولاته بالفشل، لعل آخرها سعي الرئيس  الأسبق " جاك شيراك" عام 2005 عقب أحداث شغب الضواحي، و محاولة خلفه " ساركوزي"  عام 2010.

يُسجل للأوساط الفكرية والأكاديمية وجمعيات المجتمع المدني، وجزء يسير من اليسار بمختلف  منظماته، اعتراضها على اللجوء إلى حالة الطوارئ، ورفضها تعديل الدستور من أجل إقرارها صراحة في أحكامه. فقد عبرت كل هذه التكوينات عن أن "حالة الطوارئ" هي بطبيعتها مساس بالحريات، ووسيلة للإجهاز على الحقوق الفردية والجماعية، وأن مهما قيل عن التَّحوُّطَات التي تعمل السلطات على التقيد بها ضمانا لهذه الحقوق والحريات، فإن ما هو حاصل وما  سيحصل مع الممارسة، لن يُبقي حقوق الناس وحرياتهم في منأى عن الأضرار والمزالق الناجمة عن إعمال " حالة الطوارئ". لذلك، كما قال الفيلسوف الإيطالي Giorgio Agamben بحق: "ليست حالة الطوارئ صمام أمان لحماية الديمقراطية، بل هي، بالعكس، مصاحِبة دائما للديكتاتوريات"، أي تقييد الحريات وتكميم الأفواه.. فهل تبقى فرنسا وفية لروح ثورتها، وتحارب الإرهاب من أن تتحول إلى دولة أمنية؟. إنه المحك الذي تواجهه فرنسا اليوم.