كتاب عربي 21

هزيمة الربيع العربي الإعلامية

1300x600
انهزم الربيع العربي أمام ماكينة الإعلام التي صنعتها المنظومة القديمة. ولم يمكن اختراقها رغم أن المثقفين والإعلاميين المتحمسين للثورة والتغيير كثر وفيهم كفاءات نوعية قادرة لو توفرت السياسة الإعلامية الذكية على قلب المعادلة. لكن يبدو أن أصحاب المال المنحاز للثورة لم يلتقوا الإعلاميين المناسبين فلم يتم تثوير الساحة ولم يمكن بعد الدفاع عن الربيع العربي ومخرجاته وآفاقه التي ثارت من أجلها شعوب المنطقة بل إن الأشهر الأخيرة قد شهدت تراجع البدايات وحدوث اختراقات داخل النخبة الثائرة التي قبل بعض عقولها الحيّة الدخول في لعبة التغيير من الداخل وهي لعبة خطرة قد تنتهي بتبييض الإعلام الفاسد وتشويه الوجوه النيرة. 

المشهد الإعلامي التونسي نموذجا

اصطنعت منظومة الحكم القديمة آلة إعلامية جبارة قادرة على إقناع الناس بأن ماء البحر حلو وأن الشمس مربعة. وقد تميزت هذه المنظومة بالولاء المطلق ورفض كل قلم حر وصوت مستقل.

والتونسيون يذكرون على سبيل التندر كيف صدرت جريدة الصحافة (الناطقة بالفرنسية) بافتتاحيتين متناقضتين يوم 7 نوفمبر (تاريخ انقلاب بن علي على بورقيبة) فافتتاحية الصباح أتت تمجد الزعيم بورقيبة بينما افتتاحية عدد المساء الاستثنائي كانت لتبخيس الزعيم التاريخي والتغني بالفرج القادم على يد صانع التغيير. نفس هذه الجريدة ضمن فريق إعلامي مصطنع في بقية الأجهزة تظاهرت فجر الثورة بمساندتها والتغني بالحرية والأمل ولم تنقض السنة الأولى للثورة حتى وجدناها تنحاز بنفس الوجوه ونفس الأساليب ضد كل نفس ثوري وتبخس الناس حقهم في الحرية وتروّج للعهد البائد بعناوين تنافق الجديد وتزدريه.

لم تفلح حكومة الترويكا في تفكيك هذه المنظومة بل خشيتها وارتعبت من نفوذها. فقد كان أقل مقال يجبر الحكومة على تراجعات كبيرة وكانت وجوه الحكم التنفيذي والتشريعي (التأسيسي) يخضعون تقريبا لاستجوابات ظاهرها صحفي وطريقتها وباطنها أمني تجريمي أقرب ما تكون للمحاكمات الشعبية.

كان أنصار الثورة يرون قياداتهم التي فوضوها بالانتخاب ترتعش أمام صحافيين لم يكن لهم شأن مذكور أيام الدكتاتورية. بل كان الشارع يعرف أنهم في أغلبهم مخبرين لدى جهات أمنية تملي عليهم مقالاتهم وتجازيهم بأقل القليل وكانت الحجج على ذلك متاحة في أرشيف وكالة الاتصال الخارجي الذي تجرأ الرئيس مرزوقي على نشر بعضها في كتاب  سماه الكتاب الأسود. ذلك الخوف أمام هذه المنظومة زادها غلوا في التخريب. فلم تفرح الحكومات بأي إنجاز ولم ينج منها الأشخاص ولا المؤسسات. ويمكن القول الآن وبعد تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض في إعلام ما بعد الثورة أن حكومات الثورة قد أسقطها الإعلام أكثر مما أسقطها الفشل والتقصير.

لقد فشلت حكومتي الترويكا الأولى (حمادي الجبالي) والثانية (علي لعريض) في اختراق هذه المنظومة واصطناعها. ولم يفلح حزب النهضة في خلق ماكينته الإعلامية الموازية التي تنافح عن حكومتيه كما فشلت بقية الأحزاب الوطنية في خلق منظومتها رغم توفر الرصيد البشري القادر على ذلك. وحتى اللحظة لم يبد أن هناك أمل  في ذلك لدى أحد.

المال وفقدان الضمير الإعلامي 

منذ حكومة المهدي جمعة (2014) استعادت المنظومة صنيعها القديم. الدفاع عن منجزات غير موجودة ونسبة كل الفشل إلى حكومتي  الثورة. وأعفى جمعة من الضغط الإعلامي فتبين أن المنظومة تستند إلى أمرين مهمين: أولهما رصيد مالي لا ينضب على ملك المنظومة القديمة وحدها مالكة الخطة والتوجيه. وثانيهما فريق صحفي يفتقد إلى أخلاق المهنة الإعلامية وموجه من قبل المنظومة القادرة على الدفع دون حساب.

لم يتغير فريق إعلام بن علي بل رفد بوجوه جديدة من نفس الطينة. وبسطت يده على المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة الخاضعة بالقانون للرقابة المالية للدولة بحكم أنها مؤسسات مصادرة ولكن رغم ذلك فإنها ظلت تعمل  طبقا لولاءاتها القديمة المعادية للثورة.

يكتشف البعض ولاءات هذه الماكينة القوية ولكنهم لا يستطيعون لها نقضا. ويرون أنها تشتغل على عقول البسطاء وتوجههم باقتدار إلى كل ما لا يخدم ثورتهم ومطالبهم. وقد حرفت اهتمامهم فعلا وبثت بينهم من الشقاق ما لا يقدر إعلام آخر مهما قوي على نقضه وإعادة تأسيس بدائل فعلية له. ووصلت جرأة المنظومة إلى إعادة كل وجوه إعلامي بن علي الذين دافعوا على نظامه حتى ساعة هروبه. 

في الانشقاق الأخير في حزب نداء تونس المتصدر للحكم اكتشف المتلقُّون أن هذه المنظومة مزدوجة الولاء فبعضها يساري إيديولوجي استئصالي انحاز إلى فريق المنشقين ودافع عنهم باستماتة بينما انحاز الفريق الآخر إلى شق الرئيس وابنه. ولكن لم يظهر أي شق من الإعلاميين موال للثورة ومنافح عن مطالبها التي لا تزال معلقة في عيون الناس وقلوبهم. وبعد أن انتهى الانشقاق وعاد الشِّقَّان إلى بعضهما تصالح الإعلاميون أيضا واغمدوا خناجرهم البينية. وتدرعوا تحريف أذهان الناس عن قضاياهم الحقيقية.

تونس مصر إعلام واحد ضد الثورة

الحالة التونسية ليست خاصة بل هي عينة من المشهد الإعلامي العربي  بعد الثورة. لقد ألَّبت آلة الإعلام المصرية المحترفة الناس ضد مرسي وصار حديث أخونة الدولة لازمة قبل تحية الصباح. وعبث بشرف الرجل وحياته كما عبث بحياة المرزوقي وتاريخه. وقد لوحظ تطابق تام بين تقنيات التشويه في مصر وتونس. كأنهما يشربان من عين واحدة. تحقير كل المنجز بما في ذلك الصبر على الأذى الإعلامي، الذي لم يقرأ كحرية تتأسس بين الناس الذين طالما طالبوا بها المنظومات السابقة بل كميوعة وخراعة في استفزاز مباشر وطلب ممارسة الدكتاتورية ليستعيد الإعلاميون وضع الضحية المربح وخاصة لجهة التمعش من الجهات الأجنبية.

لم يكن الجمهور مهتما بنوعية الإعلاميين الذين يحرفون وعيه بل كان في حالة استسلام وبَلَهٍ أمام شخصيات جاهلة وأمية ولا ضمير لها ولا نخوة ولا غيرة على الوطن. وكان هؤلاء يعرفون الجمهور ويكرِّسون البلاهة لأنهم كما ربَّتهم المنظومات يعيشون من بلاهة البلهاء وتقتلهم حصافة الأذكياء ونباهتهم ولذلك اصطنعوا جمهورهم لأنه "عايز كده من الأول". لقد أفلحت آلة الإعلام التي صنعتها المنظومة القديمة في مصر وتونس في تخريب الثورة وتيئيس الناس منها.

ولكن الفشل ليس خارجيا فقط. القادمون الجدد للسلطة لم يكن لديهم علم بهذه الآلة رغم إنهم كانوا ضحاياها لسنوات الديكتاتورية. لم يكونوا يقرؤون فعلها في الناس. فلما أن مُكِّنُوا من السلطة لم يبتكروا لها الحل. كان الحل هو (ارحل مع النظام القديم) وكان مناخ الثورة يسمح بذلك بل يسمح بالحساب العسير. فلم يحصل من ذلك شيء.. لقد أعفت الثورة أعداءها من جهل وطيبة في غير زمانها ولا مكانها.

وبموازاة ذلك كان السَّعي إلى خلق إعلام بديل  أضعف من أن يواجه ثروة مثل ثروة ساويرس في مصر أو القروي في تونس (كان التحالف مع آلة برلسكوني والإمارات واضحا في البلدين)، فضلا عن المال المحلي الذي يمرر عبر الإشهار ويقطع بأمر الرأس المدبرة للآلة.

بعد خمس سنوات من الثورة نقف على بشاعة المشهد الإعلامي (في تونس خاصة ففي مصر انتهت فسحة الحرية) الذي يتصدره إعلاميو المنظومة القديمة وهم الآن في موضع تتودد إليهم فيه الأصوات الجديدة الحرة لتمرر كلمة هنا وأخرى هناك. باعتبار أن سياسة الكرسي الفارغ تجعل الجمهور بلا صوت. ولعمري أن هذا من انتصارات المنظومات وإحدى أهم الاختراقات التي حققتها. فقد كان الوطنيون الشرفاء زمن الديكتاتورية يفرحون بظهور عابر في تلفزة تستعمل المقص أكثر مما تستعمل القلم. تحتاج الثورة إلى إعلامها الثوري وكلما تأخر ذلك تمكنت المنظومة من المشهد  وجعلت الثورة جريمة.