كتاب عربي 21

هل نيّمت أمريكا السيسي من المغرب؟

1300x600
يبدو الأمر مخططا له منذ فترة، زيارة الأمم المتحدة هي الفرصة الأهم لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه مع الولايات المتحدة، في ظل عدم وجود أفق لزيارات قريبة متبادلة بين السيسي وأوباما، لذلك يجب ألا تضيع دقيقة فيها دون إسماع واشنطن الكلام الذي تحب أن تسمعه من النظام المصري.

تحولت العلاقات المصرية الأمريكية في العام الأخير إلى حالة "اللاسلم – اللاحرب"، لا تناصب واشنطن نظام السيسي العداء الصريح حفاظا على مصالحها، لكنها في الوقت نفسه لا تتعامل معه كصديق، تضطر في مرحلة ما الإفراج عن بعض المساعدات، لكنها لا تبادر بالمساعدة ولا تتطوع بالدعم؟

حاول السيسي إثبات قدرته على الاستغناء عن واشنطن بالاتجاه شرقا نحو روسيا والصين، لكن بعد شهور طويلة من الزيارات والاجتماعات لا سيما مع موسكو، بدا أن هذا المعسكر لا يمكن أن يعوّض مصر عن الغرب، وفي الصدارة منه الولايات المتحدة الحليف العسكري والاقتصاي الأهم لمصر في العقود الأربعة الأخيرة.

أضف إلى كل ذلك صعوبات اقتصادية متزايدة، وخزانة مثقلة بالديون وفوائدها وآخرها أموال قناة السويس، ودعم خليجي تناقص تدريجيا حتى اقترب من الاختفاء، وسياحة شُيعت إلى المثوى الأخير، واستثمارات تخرج وتتقلص ومستثمرون يفكرون ألف مرة قبل وضع أموالهم في بلد، يعترف كل القائمين عليه أنه في حالة حرب.

كل هذا دفع نظام السيسي للتفكير بالعودة إلى أحضان واشنطن، الأمر ليس سهلا لكنه أيضا ليس مستحيلا، يكفي أن تمنح الإدارة الأمريكية بعض التصريحات والاعترافات والتنازلات التي تجعلها تطلب من هيئاتها المنتخبة دون حياء دعم النظام الناشئ، ما دام أبدى استعدادا للقبول بقواعد اللعبة وأكثر.

لكن هناك مشكلة بسيطة، هذا التراجع في المواقف الذي يشبه إنهاء خصومة ثأرية عبر حمل الكفن، لا يليق بالرجل الذي يصدره الإعلام هنا على أنه حائط الصد ضد المؤامرات الأمريكية، لكن هذا يمكن تجاوزه بانتقاء ما يحب النظام للناس أن يسمعوه وحجب ما دون ذلك، فضلا عن شغلهم بمعارك أخرى هامشية، ربما لا يفلح هذا مع الكتلة المثقفة المطلعة على وسائل إعلام أخرى، لكنه سيفيد جدا مع الكتلة التي تستقي معلوماتها من برامج التوك شو الليلية، وهي الكتلة التي يراهن عليها وزير الدفاع السابق، ومازال.

عندما كانت الصحف المصرية تنشر أخبارا من نوعية "التصفيق 10 مرات خلال كلمة السيسي"، و"أوباما يترك مقعده لمصافحة السيسي"، وعندما كانت الفضائيات تنقل بثا مباشرا لرقص المصريين خارج مبنى الأمم المتحدة في نيويورك؛ احتفالا بكلمة يلقيها الرئيس المصري ضمن عشرات الكلمات التي ألقاها رؤساء العالم دون احتفالات، كانت الصفحة الرسمية للرئاسة تقطع جزءا من حوار السيسي مع أسوشيتد برس يتحدث فيه عن ضرورة توسيع اتفاقية السلام مع إسرائيل لتشمل دولا عربية أخرى.

وعندما نقلت وسائل الإعلام الغربية هذه الجزئية في صدر تغطيتها لنشاطات الرئيس المصري، ثم أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه بها في بيان رسمي، لم يعد الصمت ممكنا وجاء دور التبرير، فخرج رئيس تحرير جريدة حكومية ليتحدث عن أن الرئيس قصد دخول دول عربية أخرى في "حالة السلام" وليس "اتفاقية السلام"، لكن حتى هذا المخرج الذي اجتهد المحرر العسكري السابق لم يكن مقنعا للكثيرين، فحتى لو كان هذا قصده فعلا فهذا لن يغير في الأمر شيئا؛ لأن يد التاريخ سبقت الجميع وكتبت أنه بينما كانت إسرائيل تقتحم المسجد الأقصى وتقصف الأراضي الفلسطينية، كان الرئيس المصري يدعو دولا عربية أخرى لسلام مخز مماثل مع إسرائيل.

تصريح السيسي ليس زلة لسان، لكنه يؤكد الهدف الذي حمله معه إلى نيويورك هذه المرة، هو يعرف أن السلام مع إسرائيل وضمان أمنها قضية حياة أو موت بالنسبة لأي إدارة أمريكية، لذلك قدم للإدارة الديمقراطية الحالية والجمهورية القادمة أكثر مما يتمنون، ليس فقط استمرار اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ولكن أيضا السعي لضم دول عربية جديدة إليها.

استمر السيسي في كرمه إزاء هذا الملف، ودعا خلال كلمته أمام الأمم المتحدة، قادة وزعماء دول العالم لتسوية القضية الفلسطينية وإقامة دولتها وعاصمتها القدس الشرقية، هو يعلم ونحن نعلم وأمريكا تعلم وإسرائيل تعلم أن إقامة دولة فلسطينية حاليا حلم بعيد، لكن المصطلحات مهمة كثيرا لواشنطن، وكلمة "القدس الشرقية" وليس "القدس الشريف" مريحة جدا لها ولتل أبيب لأنها تعني أن ما بذلوه من جهود لفرض واقع على الأرض لم يذهب سدى، فها هو رئيس الدولة العربية الأهم غاية أمله أن تكون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين.

لم يتوقف الانبطاح على الملف الفلسطيني، لكنه امتد ليكون انبطاحا في المطلق، حيث قال السيسي في حواره مع شبكة سي إن إن: "أي قوات نظامية متقدرش تقف قدام القوات المسلحة الأمريكية، أو تواجه الولايات المتحدة"! هذا التصريح يخرج من الرئيس الذي يقولون إنه أخضع واشنطن ويقول إعلامه إنه أسر قائد الجيش الأمريكي السادس.

هذا التصريح سيبقى محجوبا عن قطاع كبير من المصريين؛ لأنه لن يأتي في نشرات الأخبار ولن تناقشه برامج التوك شو، لكنه سيصل إلى مسامع المواطن وصانع القرار الأمريكي، وسيثبت لهم أن الرئيس المصري الجديد لا يمثل أي خطر على مصالح أمريكا في المنطقة.

ثم تحدث السيسي في الحوار نفسه عن حرية الإعلام في مصر باعتبارها أحد النقاط الخلافية بين نظامه وإدارة أوباما، فحاول طمأنة المجتمع الأمريكي بشأنها فقال: مصر لديها حرية إعلام غير مسبوقة، مفيش حد في الإعلام أو الصحافة أو التليفزيون يمكن أن يتم الحجر على رأيه، ولم يحاسب أي صحفي أو إعلامي على رأيه منذ اعتلائي السلطة في مصر".

لا تحتاج أمريكا لدلائل على ما يقوله السيسي، ربما تعرف أصلا أن ما يقوله غير حقيقي وأن حالة الإعلام المصري غير مسبوقة في التطرف والإقصاء، لكنها لا تهتم بذلك، فيكفي أن رئيس مصر لا يقول الحقيقة خوفا منها، وهو عند المسؤولين هناك مؤشر له دلالة حول السياسة الجديدة للرئيس المصري.

صحيفة محسوبة على النظام الحالي احتفت بتصريحات خاصة حصلت عليها من وولف بيرلتزر مذيع "سي إن إن" الذي أجرى الحوار مع السيسي، أعرب وولف في تصريحاته عن تمنياته بأن يستمع كل المشاهدين في الولايات المتحدة وحول كل العالم لرؤية الرئيس السيسي ويقدروها.

نسي هؤلاء التقارير المطولة التي أعدوها في السابق للتدليل على انحياز وسائل الإعلام الأمريكية ضد مصر والسيسي وبحثها عن مصلحتها فقط، بهذا المنطق يصبح احتفاء مذيع في الشبكة الأمريكية الأشهر بتصريحات السيسي ليس إلا اعترافا صريحا بأن كل ما قاله الرجل هذه المرة يرضي العدوة الافتراضية ويأتي على هواها.

هذا الحوار، وهذه الكلمة، وهذه التصريحات، وهذه الزيارة سيتبعها تحسن في العلاقات المصرية الأمريكية، وربما تكون هناك زيارة قريبة لرئيس أمريكا إلى مصر أو لرئيس مصر إلى أمريكا، وإن لم يسعف الوقت أوباما لذلك، سيكون على جدول أعمال الرئيس القادم، فهم لا يتمنون رئيسا لمصر أفضل من ذلك.