تزداد الأزمة
المصرية تعقيدا وتفاقما بمرور الأيام، بينما تتصرف دول عربية رئيسية، وفي مقدمتها
السعودية، وكأنها تعمد إلى تجاهل مصر كلية. ولكن أحدا لا يمكنه التصرف وكأن مصر اختفت من الخارطة. تماما، لأنها أكبر دول العرب وأثقلها في الميزان، وتماما لأن ثمة حاجة ملحة لعودتها إلى توازن القوى الإقليمي، وتماما، لأن من الضروري حمايتها من العنف والفوضى، لابد من التدخل لإيقاف انحدار الوضع المصري إلى مزيد من الجنون. ومن الأولى بالتدخل ممن ساهم أصلا في صناعة هذه الأزمة البالغة؟
تقول الرياض إن اليمن اليوم هي أولوية الأولويات، وأن لا مجال لتكريس جهود إضافية في أي مسألة أخرى. وليس ثمة شك أن قرار حرب اليمن كان قرارا كبيرا، وما كان له أن يتأخر.
ومن الطبيعي، والحرب قد طالت، ربما أكثر مما كان يتوقع لها، أن تصبح شاغل القيادة السعودية الرئيسي، بحيث تتضاءل إلى جانبها معظم المشاغل الأخرى.
كانت الحرب، ولم تزل، إحدى شؤون الدولة، أي دولة، العظمى، وما يجري في اليمن حرب بالغة التعقيد. إضافة إلى ذلك، فإن القيادة السعودية الحالية، تقول أصوات في الرياض، لم تكن هي من رحب بالانقلاب في مصر، ومن منحه عشرات المليارات من الدولارات. ولكن الحقيقة أن سعودية الملك سلمان قدمت هي أيضا بعض المال للنظام في مصر، وإن كان ما قدمته لا يقارن بمنح سابقتها.
وربما كانت القيادة السعودية الحالية تنظر إلى الوضع في مصر بدون أي مشاعر إيجابية، وأنها تراه فعلا باعتباره ميراثا ثقيلا، وأن ثمة أصلا لما يشاع حول وجود خلافات مكتومة بين الإدارة السعودية الحالية والقاهرة، بخلاف الإدارة السابقة التي رفعت نظام 3 تموز/يوليو إلى مرتبة المخلصين الكبار.
السعودية، بكلمة أخرى، تنظر إلى الوضع في مصر من زاويتي نظر لا تقل إحداهما أهمية عن الأخرى: متطلبات حرب اليمن، ومخاوف الأمن الإقليمي العربي.
فمن جهة، وبعد أن فشلت الجهود السعودية في استدعاء مشاركة عسكرية ملموسة من باكستان ومصر في الحرب اليمنية، وبالرغم من أن الرياض لا تثق ثقة كاملة في الدور الذي تلعبه، أو تود أن تلعبه، القاهرة في الأزمة اليمنية، فثمة حرص مبالغ فيه من السعودية لإظهار تماسك التحالف، وعدم خسارة أي طرف يشارك ولو بصورة رمزية في جهود هذا التحالف.
في وسط حرب، يقول المسؤولون السعوديون، ينبغي الحرص على كسب الأصدقاء وعدم خسارة أي منهم، ما دام ذلك ممكنا، ليس فقط على مستوى الدول، بل وحتى القوى السياسية والشارع العربي، وفي حال سمحت السعودية لوقوع تغيير جوهري في الموقف المصري من اليمن، فسيكون لذلك أصداء كبيرة في الإقليم.
ومن جهة أخرى، وبالرغم من أن الرياض قد لا توافق على الكثير من خطوات النظام المصري الداخلية، فإن نظام 3 تموز/يوليو العسكري ليس شأنا جديدا في مصر، وكان وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قال أثناء جلسة المباحثات الرسمية مع الرئيس التركي أردوغان قبل شهور، إن الجيش حكم مصر، بصورة أو أخرى، منذ 1952؛ والنظام الحالي ليس إلا استمرارا لهذا الوضع، وقال الأمير، إن هناك دولا، كما يبدو، لا يصلح لها إلا مثل هذا النمط من الحكم.
وليس ثمة شك أن مثل هذا الموقف ينسجم وعدم اكتراث السعودية بالمسألة الديمقراطية، في مصر أو غيرها. وإلى جانب ذلك، ترى القيادة السعودية أن تدافعات الأعوام الأربعة الماضية في المجال العربي أدت إلى انهيار الدولة وفقدان الاستقرار في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وتعثر ملموس في لبنان وتونس. ومصر، بتسعين مليونا من السكان، هي أكبر الدول العربية وأوسطها؛ فإن سمح بانهيار الدولة وفقدان الأمن والاستقرار، ستترك مصر أثرا هائلا على الجوار كله، وتجعل من الصعب بمكان محاولة استعادة أمن واستقرار المنطقة.
باختصار، تنظر القيادة السعودية للوضع المصري نظرة براغماتية بحتة، تبدو خالية من أوهام الأيديولوجيا المناهضة للثورة والتغيير والصعود الإسلامي السياسي التي ولدت سياسات القيادة السابقة وحلفائها في دول الخليج الأخرى. وبهذا، تبدو الرياض اليوم وكأنها تحللت من مسؤولية ما يجري، وما قد يجري، في الجارة العربية الكبيرة. الحقيقة، أن هذا التحلل من المسؤولية ليس ممكنا.
أولا، لأن الدول هي كيانات قانونية وسياسية حية ومستمرة، ولا يمكن، مهما كانت المسوغات، القول بأن السعودية اليوم ليست مسؤولة عما قامت به سعودية الأمس. ما شهدته مصر من انقطاع في مسيرة التحول الديمقراطي والانقلاب على الحكم المنتخب لم يكن نتاج توازن قوى داخلي وحسب، بغض النظر عن الجدل حول حجم المعارضة للرئيس مرسي.
ما شهدته مصر كان أيضا، وربما حتى بصورة أكبر، نتاج توازن قوى إقليمي، دفع بقوة الإقناع ووعود الدعم المالي والاقتصادي من أجل عودة الجيش إلى الحكم والتخلص كلية من أثار ونتائج ثورة كانون ثاني/يناير 2011. وليس ثمة شك أن السعودية والإمارات، والكويت في مرتبة متأخرة، مثلت الثقل الأكبر والأهم في هذا التوازن. وما كاد قادة نظام 3 تموز/يوليو يمسكون بمقاليد الحكم، حتى تدفقت على النظام الجديد عشرات مليارات الدولارات من دول الخليج الثلاث، سواء كمنح لا ترد، كودائع في البنك المركزي، أو مشتقات نفطية ومساعدات تطويرية أخرى. هذا التدفق الهائل للمال على أية دولة عربية في العصر الحديث، خلال الفترة من صيف 2013 حتى نهاية 2014، كان عاملا رئيسيا في مساعدة النظام على البقاء.
ثانيا، إن القول بأن مصر تسير نحو الاستقرار، وأن هناك خشية كبيرة وخطرا من القيام بأي خطوة قد تهدد هذا الاستقرار، ليس صحيحا، ولا يستند إلى تقديرات صحيحة.
مصر اليوم أقل استقرارا مما كانت في مطلع صيف 2013، بل ومما كانت في أي وقت آخر منذ سقوط نظام مبارك.
على المستوى الاقتصادي، استطاعت حكومة الرئيس مرسي خلال عامها الوحيد النهوض بكافة المؤشرات الاقتصادية الرئيسية للبلاد ومالية الدولة. ولكن، وبالرغم من المساعدات المالية الخارجية الضخمة، والتراجع المتسارع في مستوى الدعم (الذي يمثل ثلث ميزانية الدولة)، فإن وضع مصر الاقتصادي يزداد تدهورا.
على المستوى السياسي، لم تتحقق أغلب وعود خارطة الطريق، التي مهدت الطريق لنظام 3 تموز/يوليو؛ ويكاد النظام يقف اليوم بدون أي من حلفائه الأوائل، الذين وفروا له وهم الشرعية السياسية. لم تزل التظاهرات المناهضة للنظام مستمرة، بالرغم من الانقسام في المجتمع المصري، منذ صيف 2013.
وربما كانت العصا الغليظة لأجهزة الأمن، والاستسلام الكامل للمؤسسة القضائية، الحاجز الوحيد الذي يقف أمام انفجار سياسي واسع النطاق. على المستوى الأمني، أدى العنف الذي تمارسه الدولة ضد شعبها وانسداد الأفق السياسي إلى انفجار معارضة مسلحة في سيناء، وتحول شبه الجزيرة إلى ما يشبه ساحة الحرب. هذا، في الوقت الذي تشهد مناطق البلاد الأخرى مستويات متفاوتة من المعارضة المسلحة والتفجيرات.
ثالثا، وهنا تتجلى المسألة المصرية في أبلغ صورها؛ فعلى خلفية من إدراك النظام لتفاقم أزمته، سواء على مستوى الشرعية أو القاعدة السياسية أو الوضعين الاقتصادي والأمني، وفقدان القضاء أي درجة من الاستقلال عن السلطة السياسية والمؤسسة الأمنية، بدأ النظام في اتباع سلسلة إجراءات قمعية دموية، توشك أن تصل إلى ذروتها.
فمن الأحكام المغلظة ضد المتظاهرين، والأحكام الانتقامية ضد نشطي ثورة يناير/ كانون أول، اتجه النظام إلى عقد محاكمات صورية لقيادات وكوادر الإخوان المسلمين، بمن في ذلك الرئيس محمد مرسي، في قضايا صورية هي الأخرى. ومن صدور أحكام بالمؤبد على عدد واسع من هذه القيادات، إلى سلسلة من أحكام الإعدام على رجال الصف الأول من الإخوان وعلى الرئيس مرسي.
الهروب إلى الأمام، بتصعيد مستوى العنف في البلاد، هي سياسة تقليدية لأنظمة الحكم المتأزمة، التي تواجه معارضات صلبة من شعبها. وهذا تماما ما تشهده مصر. ففي حال تنفيذ هذه الأحكام، وهو تطور لا يمكن استبعاده، فإن البلاد ستنحدر إلى هوة عميقة، وإلى تفاقم جوانب أزمتها المختلفة.
القطاع الأعظم من معارضي النظام حتى الآن، إسلاميين وغير إسلاميين، حريص على تجنب العنف واللجوء إلى السلاح. ولكن من سيستطيع التحكم في هؤلاء إن استمر النظام في تصعيد مستوى العنف الرسمي؟
السعودية، ودول الخليج الأخرى، التي ساهمت في صناعة هذا الوضع المتأزم مسؤولة، ومسؤوليتها تفرض عليها التدخل لإنقاذ مصر من نفسها.