كتاب عربي 21

في أنّ الطاغية العربي فنان تشيكليّ!

1300x600
إذا قدرت لك المقادير، وزرت بلاد الإفرنج، سائحا، والسياحة وقف على الأثرياء، أو لاجئا، أو نازحا، أو نازفا دمك، أو وطنك، وقد بات  فرضا، لا واجبا على  أكثر الشعوب العربية.. في طائرة مكرما معززا، أو سابحا في البحر على كلب أو فرشة، أو معلقا بقطار من الأسفل، أو منبطحا في عربة البضائع، فستجد بدعة عجيبة، وهي أنّ الجيل الأوربي الشاب يحرص أشد الحرص على الهوية "الفردية" برسم الحدود الإقليمية لجسده  احتياطا من التباس الحدود بحدود الأجساد الأخرى، وذلك بالوشم. شبان وشابات، مرقطون بمختلف أنواع الوشم، رسوم ونقوش تجريدية، وأشكال حيوانات وتنانين، وحيوانات عجيبة، وقديسين وشياطين.. وكان المفكر المصري المعروف عبد الوهاب المسيري قد التقى برجل أعمال ناجح، قد أجرى عمليات جراحية، وزرع  تحت جلد رأسه، فوق القحف، قطعا نقدية مدورة، وأخرى مثلثة.. فبات رأسه أشبه بصندوق السلحفاة. سأله عن الهدف من "الأوبريشن" فقال: فقدت الإحساس بجسدي، وهي الطريقة الوحيدة لحمايته من الغرق في العدم. يُعتقد أنّ هذه البدعة انتشرت بعد آلام الحرب العالمية الثانية، لدى الطرق الصوفية العلمانية، مثل الهيبيز، وارتفعت بعد الرخاء الأوربي العلمي والاقتصادي والإعلامي والسيادي. حروب الرخاء غير الظاهرة للعين المجردة، تشبه من أحد الوجوه حروب الدمار، الأولى تدمر النفس ببطء، والثانية تدمرها بسرعة.

 لكن يجد مثلي، صعوبة في تقبل تزيّين مناطق حرجة من الوجه، مثل زرع حلقات معدنية في الشفاه، أو الخدود، أو سقوف الأجفان، أو اللسان!!، فالشعوب كلها تعرف زينة الأذن والأنف، وهي بدعة لا تزال شائعة في الريف، والبوادي العربية، أما الشعوب "البدائية" فهي تمارسها كمناسك وعبادات، ويعتقد أنها تستعيرها من الحيوانات المقدسة الطوطم التي تعبدها، أو التي تنظر إليها بعين التأليه..نمرا، أو خنزيرا، أو حشرات؛ رغبة في معادلتها بغرائزها ومواهبها في الصيد او القوة أو السم.

 لكن إذا كانت الوشوم علامة مسجلة للحضارة والعمران، فإننا لا نزال نسبق الأوربيين في عدة أمور منها: الوشم، وهو حرام شرعا في الإسلام، فقد لعن الله الواشمة والمستوشمة، لما فيه من تغيير لخلق الله، فهو، إسلاميا، تزوير في "وثائق" إلهية !  الأمر الوحيد المسموح شرعا بتغييره في الجسد المخلوق، في أحسن تقويم، هو الختان الذي تكشف العلوم الطبية أنه صحة وطهارة، وتذكر إحصاءات، أنّ معظم المصابين بالايدز قوم غلف. وأذكر أنّ جارتنا الحاجة وضحة ذات الثياب المزركشة، والأوشام الكثيرة، على الوجه واليدين والقدمين، كانت امرأة برجاء، تقوم بجولة تسوق صباحية، وهي تدخن في الشارع، تشاتم البائعين، وتخاصمهم على الأسعار، بل وأجزم أنها كان يمكن لها أن تفرج عن مسجونين في سجن البلدية نتيجة شجار أو خصومة على حدود البساتين، قبل عصر المخابرات الشمولي، الذي كاد أن يجعل التنفس على العداد!

 لكننا نتفوق على الأوربيين بأمر ثانٍ هو حب الحيوانات "المثمرة"، فكنا نسافر في باصات النقل العامة ومعنا حيواناتنا اللبون مثل الأغنام والماعز والدجاج والبط، أما الأوربيين فيسافرون مع حيوان وحيد كئيب - أعزكم الله - هو الكلب.

  ينسب إلى الزعيم شمعون بيرس قوله أنه لا يخاف كل أسلحة العرب، لكنه سيخافهم إذا وقفوا على الدور أمام الباص أو الفرن،  والحق أني لا أتذكر دورا في طفولتي أو صباي سوى زحمة المراهقين أمام شباك تذاكر السينما، عند عرض أفلام جماهيرية، سوى ذاك، كان كل بيت دولة كاملة، بئرها محطة مياه محلاة، وسراجه محطة كهرباء بلا فواتير،  وتنوره فرن كامل، وفي غرفة المؤون؛ ميرة سنة كاملة من القمح، والمواد الغذائية المدخرة من أيام الصيف.

 تنتشر الآن "دُرجة" هي الثياب الأوربية المرقعة أو الممزقة، وكان في بلانا فقراء لهم ثياب فيها رقع،  وكان أمرا عاديا، الأمر الآخر الذي كان شائعا هو  إرضاع الأمهات لرضائعن أمام الباب، أو وسائل النقل  العامة من  غير أن يكون مدعاة للإثارة الجنسية، أما في أوربا،  فتختلف عنا في هذه، فنساؤهن يكشفن كل أجسادهن الموشومة، أو غير الموشومة، سبيلا عاما، "أوقافا"،  إلا مساحة واحد بالمائة من الجسد هي نقطتان في الصدر، بالإضافة إلى مثلث برمودا ! في رأيي أن الجسد الموشوم هو جسد مكسو، مغطى، لا يمكن كشفه أبدا،  هو حزام عفة أيضا . فلا إثارة جنسية في جسد موّشم، أو هي قليلة وباهتة.

 لم تكن لدينا نقابات تداع عن حقوق العمال، لم تكن لدينا طبقة عمال، فهم  فلاحون ومزارعون وجراء،  وتسوّى الخلافات عرفيا، في حجرات الشيوخ، أو عند زعماء ووجهاء القبائل، أو الحارات، بسهولة، وأذكر أن قريبا لي توفي في 1970، فتجمعت لدى أبنائه ثورة كبيرة، من أموال المواساة و العزاء.

 سبقنا الأوربيين، في صدر الإسلام، أو حتى في أيام العثمانيين الذين اسقطوا القسطنيطينة بسفينة تجري على اليابسة! وكانت الأندلس منارة بالأنوار في الشوارع، والحمامات، والنوافير، بينما كانت أوربا تغرق في الظلام والطين، حسب شهادات من منصفين مثل زيغريد هونكة وول ديورانت..  وعلمناهم الطب والسقاية واخترعنا المحرك أبو ثمان بستونات، والنواعير، و الصناديق التي تفتح بالأرقام، وكاد شارلمان أن يصاب الجنون من شياطين في الساعة، التي أهداها إليه هارون الرشيد، والكفالة الصحية، و الكفالة ضد العجز والتقاعد للمسلمين ولأهل الذمة .. كان هارون الرشيد يجبي خراج الغيوم ، كما يفعل أوباما الآن؛ بالحجارة، ورمال الصحارى.

 بشرى سارة؛ لا زلنا نسبق الأوربيين "العلوج"، فالوشوم عندنا أقوى، وأدوم، فهي تتم بالحديد المحمّى في أقبية المخابرات على أجساد العلماء، والنشطاء، والأدباء والنابهين أوسمة من حكوماتنا الوطنية الموقرة، والنقوش ترسم  بأقلام الكهرباء على صفحات الجسم، أما الرقع، فهي على جلد الجسد مباشرة لا في الثياب، وفي الروح طبعا، وعندما تزيد الرقع ، ويصبح الجسم باليا من كثرة التعذيب، تباع بقية الأعضاء ، كقطع غيار للمحتلين مباشرة أو بالوكالة ،وتصاحبنا في الإقامة والسفر حيوانات تأكل اللحم البشري، غير مرئية، و تحصي علينا الأنفاس والأحلام.

 لقد حولنّا الطغاة "الفنانين" وبلادنا إلى لوحات تشيكلية!