تتعرض حركات "
الإسلام السياسي" في الآونة الأخيرة - وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين - لموجات متلاحقة من التضييق والتهميش والملاحقة والإقصاء، في العديد من الدول العربية.
فبعد أن وضعتها ثورات الربيع العربي في صدارة المشهد، ونقلتها من مقاعد المعارضة إلى كراسي السلطة، أحالتها ضربات "الثورة المضادة" إلى جماعات إرهابية منبوذة، أُغلقت مقاراتها، وصودرت ممتلكاتها، وحكم القضاء على قيادات تلك الحركات ورموزها بأحكام الإعدام المغلظة.
أثار هذا المشهد الذي تواجه فيه حركات "الإسلام السياسي" أعتى حملات ضربها وتصفيتها، وإخراجها من الحياة العامة بالكلية، وتجريدها من شعبيتها وحضورها، جملة من التساؤلات العميقة والقلقة، فما الذي أفضى إلى هذا المشهد الذي ينذر بتداعياته الخطيرة إلى تآكل شعبية تلك الحركات وبدء أفول نجمها؟ وهل ما حدث لها يعود إلى شراسة ضربات قوى "الثورة المضادة" بإمكاناتها الضخمة فحسب، أم أن ثمة أسباب ذاتية كان لها تأثيرها البالغ في تمكين تلك القوى من بلوغ أهدافها بحسب ما رسمته وخططت له؟. وإلى أين ستفضي تلك الحملات الشرسة المسعورة ضد حركات "الإسلام السياسي"؟ وهل المنطقة العربية تعيش مرحلة ما بعد "الإخوان المسلمين"، وإن كان الأمر كذلك فما هو البديل الذي سيحل محلها، ويشغل المكان الذي كانت تشغله، ويؤدي الدور الذي كانت تقوم به؟.
ولعل السؤال الأهم في هذا السياق والذي يأتي من داخل الصف الإسلامي وخارجه: هل فقدت حركات الإسلام السياسي مبررات وجودها، بعد أن أثبتت فشلها وعجزها عبر تجاربها هنا وهناك، وباتت المعطيات الجديدة تلح على نشوء وقيام كيانات "إسلامية" جديدة تحل محلها وفقا للمعنيين والمحللين؟
هل فقدت الحركات الإسلامية مبررات وجودها؟
يستذكر الأكاديمي الشرعي السوري، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور عداب الحمش أن نائب المراقب العام الأسبق لإخوان سوريا، الشيخ سعيد حوى بعد خلافات عميقة، وعاصفة مع قيادة الجماعة في عقد الثمانينات من القرن الماضي كان ينوي إنشاء كيان دعوي آخر.
وبحسب الدكتور الحمش، فإن الشيخ حوى وصل إلى قناعة مفادها أن "جماعة الإخوان المسلمين استنفدت مسوغات وجودها –على الأقل في سوريا -، ولا بد من جماعة بديلة" طالبا منه أن يكون شريكه في إنشاء وتكوين الكيان الجديد.
ووفقا لما قاله الحمش في حديثه لـ"
عربي 21" فإن غاية ذلك الكيان الجديد "الحرص على الموجود، وإيجاد المفقود من دون عدواة الإخوان"، والتي تبلورت في دعوة الشيخ حوى إلى فكرته الجوهرية التي أسماها "إحياء الربانية"، وتركيزه على الجوانب العلمية والدعوية والإيمانية الروحانية، التي كان يراها ضعيفة في جماعة الإخوان.
تجربة الشيخ سعيد حوى مع إخوان سوريا، تعكس ذلك الجدل الذي لا تتوقف أسئلته حول قدرة الجماعة على إقامة التوازن بين الدعوي والسياسي، ولجم الجماعة عن الانجرار بكليتها إلى ميادين السياسة ودهاليزها، ما يعني تغول السياسي على الدعوي والإيماني، ومن ثم توريط الجماعة في مستنقعات السياسة مع العجز عن إدارة الصراع بشروطه المطلوبة.
يبدي الدكتور الحمش أسفه لعدم تمكن الشيخ حوى من إنشاء الكيان الدعوي الذي كان يحلم به، بسبب الأمراض التي داهمته وأقعدته عن فعل ذلك، مظهرا قناعته التامة بضرورة إنشاء كيانات دعوية بديلة، لإيجاد المفقود، وإعادة صياغة الفكر الإسلامي من جديد.
تعدد تجارب الحركات الإسلامية واختلافها
من جانبه رأى الباحث السعودي المهتم بشؤون الحركات الإسلامية، الدكتور باسم العطاس أنه "لا يمكن وضع كل تجارب حركات "الإسلام السياسي" في مستوى واحد، فهي مختلفة من بلد لآخر، وكذلك اختلفت أساليب وطرق القوى المناوئة لها".
وأشار العطاس إلى أن قراءة المشهد بمآلاته ونتائجه تظهر "ضعفا في خبرة تلك الحركات وفي كيفية تعاملها مع القوى الأخرى، وفي الوقت نفسه أظهرت درجة عالية من الحكمة في التعاطي مع الشأن السياسي والاجتماعي مما جعلها تحافظ على مكتسباتها الاجتماعية إلى حد كبير في دول أخرى.
وردا على سؤال "
عربي 21": هل يمكن القول بأن العالم الإسلامي يعيش حالة ما بعد الإخوان المسلمين؟ قال العطاس: "لا أتوقع وجود قوى إسلامية جاهزة لسد ذلك الفراغ، ولا أقصد بالطبع عدم وجود أي قوى في الساحة، لكنها ضعيفة التأثير بسبب ضعف قدراتها التنظيمية".
وأشار العطاس إلى أن بعض الأنظمة السياسية سعت لإقحام قوى لا تعتبر السياسية جزءا من أدبياتها، مستفيدة منها لمرحلة معينة، مستبعدا سماح الأنظمة باستنساخ قوى تشبه الجماعة، إلا أن تكون قوى تابعة لها بالكلية، والتي ستكون في الغالب الواجهة الدينية للنظام.
في السياق ذاته اعتبر الكاتب والمحلل السياسي المصري، مصطفى زهران أن "مجابهة حركات الإسلام السياسي ومحاصرتها، خاصة جماعة الإخوان المسلمين أثر بشكل كبير في زيادة وتيرة العنف، الذي يشرعن ممارساته ليبرر منحاه الراديكالي الجديد، القائم الآن والمتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية والولايات الممتدة والتابعة له في الدول الأخرى.
وتوقع زهران أن تصب أحكام الإعدامات الأخيرة بحق الرئيس مرسي وعدد من قيادات الجماعة في مصر، مباشرة في مصلحة "دعشنة" المشهد المصري.
وفي جوابه عن سؤال "
عربي 21" حول مستقبل مشهد حركات الإسلام السياسي في مصر وخارجها، قال زهران "إن الحديث عن بديل لقوى الإسلام السياسي يعني بشكل أو بآخر أننا نقوم بدفعهم نحو المحرقة لنتخلص منهم مباشرة باعتبارهم جنسا آخر لا يمكنهم العيش بيننا" واصفا ذلك بأنه "كلام غير معقول وليس إنسانيا".
وأكدّ زهران أن "قوى الإسلام السياسي جزء من نسيج هذا المجتمع العربي والإسلامي، تمتد جذورها لأكثر من ثمانية عقود ويزيد، نعم تحتاج إلى مراجعات فكرية لتعيد قولبتها المجتمعية في الواقع المعاش، وإعادة تعريف نفسها ضمن إطار الدولة الوطنية".
ودعا زهران الأنظمة العربية والإسلامية إلى ضرورة التعامل مع الحركات الإسلامية برؤى مختلفة تنطلق من إطار التكامل والتلاحم ضمن الإطار الوطني الجامع، وليس من خلال المعادلة الصفرية التي يسعى كل طرف منهما للقضاء على الآخر".
الولادة الجديدة أو الانحسار والأفول
بدوره قارب الكاتب والإعلامي الأردني، حاتم الهرش الأسئلة المطروحة، منطلقا من أن "كبرى حركات الإسلام السياسي جماعة الإخوان المسلمين، تواجه أشدّ لحظات وجودها خطورة" موضحا أن "كل المقاربات التي تطرح لدحض هذا الطرح من طرف الجماعة، تقع في إشكالية اجترار خطابات المحنة وتجاربها في خمسينيات القرن الماضي مع اختلاف الواقع الحالي".
واعتبر الهرش أن "هذا الطرح هو دليل إدانة لسلوك الجماعة السياسي في الميدان، لسببين: أولهما استبطان خطابات المحنة دون إقناع مؤيدي التنظيم وجماهيره بأدوات تم تجاوزها، وثانيهما: مقاربة واقع ماض بواقع حاضر مختلف تمام الاختلاف".
وأشار الهرش في حديثه لـ"
عربي 21" إلى أن جماعة الإخوان حينما يغيب دورها الميداني كما في العراق وسوريا، فإن ذلك يقود إلى نشوء خطابات جهادية تملأ الفراغ في تلك الدول، سرعان ما تجد من يلتف حولها، وبالتالي يفقد الإخوان وجودهم إلا بشكل عابر لا يؤبه له، وغير مؤثر في الواقع.
وفي تقييمه لأداء الإخوان في الدول المختلفة، رأى الهرش أن الإخوان فشلوا في إدارة الحالة اليمنية وأخلوا الساحة للحوثيين، وفشلوا كذلك في مصر بصرف النظر عن الملابسات، واكتفت النهضة التونسية بوزير واحد، وهي أبعد ما تكون عما يصفونه بالتشاركية والتعددية، طبعا هم ليسوا جزءا من المعادلة في سوريا والعراق.
وخلص الهرش إلى القول "الإخوان في عموم تلك الدول، إما أن يشهدوا ولادة جديدة بفعل ميداني يتجاوز خطابات المحنة، أو سيعيشون مرحلة الانحسار التي عاشها القوميون واليساريون في سبعينيات القرن الماضي بعد هزيمة 67.