كتاب عربي 21

الطوفان

1300x600
تأخرت في كتابة هذا المقال لأن الرعب تملكني مما تحمله الأيام القادمة لمصر وبقية المنطقة. إن مصر منذ أربع سنوات تشهد أحداثا لم تشهد لها مثيلا منذ قرنين من الزمان تقريبا. فعام 2011 قامت فيها أول ثورة شعبية لا يقودها أحد من النخبة الحاكمة، فثورة عرابي قادها رئيس وزراء ووزير دفاع، وثورة 1919 قادها رئيس الجمعية التشريعية، ووكيلاه بموافقة رئيس الوزراء والسلطان الذي عينه الاحتلال، وثورة 1952 قادها الجيش، أما ثورة 2011 فقادها الناس كافة. وعام 2013،  وقعت في القاهرة أكبر مذبحة شهدها تاريخ المدينة منذ أن قصفت مدافع الحملة الفرنسية الأزهر والغورية في 1799. أما اليوم، فيبدو أن مصر، ومن ورائها ما تبقى سالما من بلاد العرب، في خطر أهلي داهم لم تشهده من قبل، ولا نجاة من هذا إلا باستقالة الحكم الحالي كله، وإلا فالأيام القادمة ستكون سوادا في سواد.
كنت كتبت من قبل أن الحرب الأهلية قد لا يتعرف عليها من يراها للمرة الأولى. وتاريخ مصر يكاد يخلو من الحروب الأهلية؛ لذلك فحكامها لا يتعرفون على الحرب الأهلية إذا رأوها آتية من بعيد، بل ربما لا يتعرفون عليها وهي تحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم. والحاكم الذي يجهل الحرب الأهلية ربما يجهل أسبابها ومقدماتها، فيأتي ما يأتي من أفعال تؤدي للحرب وهو لا يعلم ما يصنع، أو يكون عالما بأن أفعاله ومظالمه تؤدي عادة للحروب الأهلية ولكنه ينخدع بكون تاريخ البلد لم يشهد حروبا أهلية من قبل فيستبعد وقوعها، ويظن أن أهل بلده "هادئون بطبعهم" فهم لا يثورون، أو يكون عالما بأن أفعاله تؤدي للحرب الأهلية، ومدركا أن الحرب الأهلية قد تندلع في بلده حتى وإن كان ذلك لم يحدث من قبل، إلا أنه يكون مبالغا في ثقته بنفسه، ويظن أنه يستطيع خوضها والانتصار فيها لكي يستأصل معارضيه. في كل هذه الأحوال يدخل الحاكم إلى الحرب الأهلية ثم لا يخرج منها لا هو ولا بلده بخير.

وأظن أن صانع القرار العربي هو من هذا الصنف الأخير، رأى أن النظام، أي نظام، لا طاقة له بالحشود الشعبية التي ملأت الميادين في 2011 فقرر أن يحول الغضب الشعبي من حشد كبير سلمي، إلى خلايا مسلحة صغيرة يظن أنه يستطيع القضاء عليها. كانت هذه طريقة تفكير صانع القرار في سوريا والعراق وليبيا، ونحن نرى اليوم ثمرة ذلك في هذه البلدان وما آلت إليه. 

إن قرار تحويل الثورة الشعبية إلى تمرد مسلح يتخذه عادة العاملون بالأمن أو المؤسسات العسكرية. هم، في ظنهم، يبرعون في القمع والقتال لا في السياسة، فيظنون أنهم بالمبالغة في مظالمهم يجرون الشعب الأعزل إلى ما يعرفون ولا يعرف، إلى ما يتقنون ولا يتقن، أي إلى القتال. إلا أن هؤلاء العسكر والأمنيين يكتشفون بسرعة أن الشعب أبرع منهم حتى في القتال، وأن الثورة السلمية الأولى ما كانت لتقوم لولا أن الدولة، بكل مؤسساتها، وبما فيها مؤسساتها الأمنية والقتالية، قد اهترأت ولم تعد صالحة لشيء. وأن تحويل الحشد الكبير إلى خلايا صغيرة سرعان ما يتحول إلى حشد كبير من الخلايا الصغيرة التي لا يمكن لأحد أن يقضي عليها. 

وفي مصر، كغيرها من بعض بلدان المشرق العربي، ترى البلد كله عائما على بحيرة من الغضب والسلاح، غضب محلي وسلاح يأتي من حدود رملية طويلة مع ليبيا لا يستطيع أحد أن يضبطها. وقد ثبت أن قيمة الحكم المصري الإستراتيجية لحلفائه الإقليميين محدودة، فهو لم يستطع أن يكون موازنا استراتيجيا لإيران في اليمن كما كانت تأمل بعض الدوائر في الخليج العربي. بل أصبحت إيران وحلفاؤها على أبواب عسير والحجاز، ولم يستطع أن يكون موازنا استراتيجيا لتركيا كما كانت تأمل بعض الدوائر في سوريا، بل أصبحت تركيا وحلفاؤها على أبواب حلب من جهة والقرداحة من جهة أخرى، وحاول بالحصار والتجويع إراحة إسرائيل من غزة فخسر سيناء فوقها، ووعد الأمريكيين بأن يكون الضامن الوحيد لاستقرار مصر فأصبحت الحال الأمنية فيها تسوء يوما عن يوم. 

صحيح أن الحكم في مصر ليس طائفيا أو قبليا بالمعنى الحرفي، حيث لا توجد طوائف أو قبائل يرتبط مصيرها بمصيره، فالصراع بينه وبين معارضيه لن يتحول لصراع بين مكونات المجتمع، إلا أن الحكم نفسه طائفة نفسه، فالمنتفعون من الدولة المصرية من الكثرة بحيث يشكلون كتلة مجتمعة معتدا بها، وهي تعلم أن أي تغيير قادم سيكون عنيفا، ومهما رفع من رايات أو شعارات، فإنه سيكون في جوهره طبقيا، خروج فقراء غاضبين على أغنياء خائفين، والخائف مستعد للقتل لا الموت أما الغاضب فمستعد لهما معا. وهذا التوتر المتصاعد بين الغاضب والخائف لا يبشر بخير، والإعتقالات والإعدامات لن تحل مشكلة سببتها الإعتقالات والإعدامات.

إن البحث عن حل سلمي للأزمة في مصر أمر ضروري، وإن كان الاحتمال يتضاءل كل يوم، وضروري أيضا أن يستقيل الذين سببوا هذه الأزمة من مناصبهم في الحكم، وفي المعارضة كذلك، وإلا فالطوفان القادم لن يوفر أحدا.