كتاب عربي 21

هذا جني وذاك عفريت

1300x600
على جسر بصنعاء القديمة، وفي منتصف الليل، كما تواعدت مع حبيبها طارق، تقف "المنقشة" اليتيمة والمعوزة إيناس وحيدة في انتظار وصول حبيبها. 

وحدها كاميرا المصور الإيطالي فريديركو التقطت المشهد ووثقت اللحظة للذكرى والتاريخ. طارق خالف وعده لمعشوقته وتركها وحيدة تندب حظها العاثر في صمت رغم تمسكها بالأمل إذ واضبت على الحضور كل ليلة ومعها حقيبة أغراضها دون جدوى. في مشهد مواز، رضخ طارق لسلطة التقاليد وميزان القوى المختل في صالح خطيبته بلقيس، ابنة الحسب والنسب، وظهر على سجادة الصلاة ميمما وجهه شطر المسجد الحرام في دلالة سياسية لا يمكن إلا أن تجد لها إسقاطات واضحة على واقع اليمن اليوم.

اليمن في فيلم (يوم جديد في صنعاء القديمة) لمخرجه بدر بن هرسي، يتموضع ويتجسد في شخصيات الحكاية تبعا للمشاهد ولتطورات البناء الدرامي. فتراه مرة مجسدا في طارق ثم في بلقيس قبل أن ينتهي نهايته الحزينة مع شخصية إيناس. ومع الأخيرةيتكرس وضع اليمن الفقير المتروك لحاله والعاجز عن تحقيق استقلاليته عن ماضيه وحاضره والانفتاح على مستقبل قوامه الحرية والمبادرة وتحدي الواقع والتقاليد. هذا يمن يريده الجيران فقيرا معوزا ومجرد "منقشة" في الأفراح، ويتربص به المخلوع والإمامي رغبة في تطويعه وإدخاله بيت الطاعة العائلي أوالفارسي لا فرق.

المتلهفون على خِطبة اليمن كثر، والمنتظم الدولي حائر في أمر الطلبات، ومهما غيَّر الخاطبات من المغرب إلى موريتانيا، فالواضح أن الخطَّاب لايريدونهاغير رقم إضافي في جناح "الحريم"، بل إن منهم من قضى منها وطرا ويرفض حريتها حتى بعد أن خلعته على إثر ثورة يمنية امتدت لشهور.

في القصة أن طارق، وهو مساعد مصور أجنبي اسمه فريديريكو، مقبل على الزواج من بلقيس، ابنة أحد أعيان مدينة صنعاء. قبل أيام من الزواج وقبل انبلاج الفجر، فوجئ طارق بفتاة ترقص بالشارع بفستان أبيض مطرز بالفضة كان قد أهداه لخطيبته فظنها هي. وبالرغم من أن خروج فتاة لوحدها ليلا والرقص بالشارع أمر مجانب للتقاليد، فقد كان لجمال الجسد الراقص وقع السحر على الخطيب.سحر لم يمنعه من البحث عن تقصي حقيقة الأمر من خلال أخته المبعوثة إلى بلقيس. مع توالي الأحداث نعلم، كما طارق، أن الخطيبة لم تعجب بالهدية فرمتها خارجا لتقع في يد المنقشة إيناس. هي إيناس إذن حب طارق الجديد الذي قد يغير مسار حياته إلى الأبد.

بلقيس..مهجورة في الكوشة

في خضم الاحتفالات المخلدة لزواجها، تجلس بلقيس في الكوشة بوجه مغطى دليل حشمة وتأدب كما تقتضي العادة، تلفها بنات ونساء صنعاء وأفراد العائلة  ابتهاجا بالحدث السعيد. يسري خبر عاجل كالنار في الهشيم تناقلته المدعوات من أذن إلى أخرى، ومفاده أن خطيبها طارق شوهد وهو يدخل منزل "المنقشة" إيناس. لقد تأكد للجميع أن العريس المنتظر سقط في غرام إيناس وصرف النظر عن الارتباط ببلقيس ليبدأ مسلسل الانسحابات يتوالى حيث تركت بلقيس وحيدة في الكوشة قبل أن تسحب نفسهابهدوءوألم. ومن أعلى بناية الفندق المطل على بيتها، يوثق فريديريكوبكاميراه المشاهد الواحد تلو الآخر شهادة على حروب معلنة وخفية تكاد تعصف بعش زوجية لم يبن بعد.. لا تزال الكاميرات توثق مشاهد من صنعاء وغيرها، لكنها كاميرات طائرات تحدد أهدافها وتقصف ما يعتقد أن أماكن تجمع  أو مواقع موالية للمخلوع أو مخازن أسلحة معادية.

هذه اليمن تترك لحالها وحيدة بأفراح منقوصة تتحول في الغالب إلى أتراح. فالعرس الأكبر في حياتها وُقِّع عقده داخل نفق بعدن ولم يكتب له الاستمرار طويلا حتى تحول لحرب ضروس بين اليمنين الشمالي والجنوبي انتهت بزواج/وحدة بالغصب لا بالرضا. ومنذ ذلك التاريخ، والبلد كلها محكومة تحت سقف نفق سياسي واجتماعي واقتصادي مسدود لا أفق له ولا يكاد ينفرج حتى يتقوض من جديد.

فالحروب بين الفرقاء لا تتوقف، والصراعات بين القبائل تكاد لا تنتهي، والقاعدة تواصل تأسيس نواة الملاذ والملجأ الآمن، والنتيجة ارتهان البلد لحسابات محلية وإقليمية آخر اهتماماتها تحقيق نماء وبعثأمل ما أحوج اليمنيين إليهما.

اليمن عروس تُطارد، كما في الفيلم، بالليل لا في عز النهار، والمغزى أن العلاقة لابد لها أن تكون إما سرية أو محرمة ولو تدثرت برداء التقاليد واحترام الموروث.

طارق..مسلوب القرار

في رسالته لبلقيس حيث كتب: "عزيزتي بلقيس، أنا عارف ليش كذبتي أنك ما خرجتي هذا الصبح. أنا لا يهمني ما يقوله الناس. خلي هذا سر بيني وبينك"، يظهر بوضوح مدى الضياع الذي يعيشه طارق بين تقاليد مجتمع لا يمكنه الخروج عنها علنا ورغبات تحرر عميقة لا يمكنه التصريح بها علنا أيضا. لقد كان بإمكانه أن يجعل من موضوع "خروج" خطيبته ليلا ورقصها بالشارع سرا فعليا بينهما، لكنه أشرك الجميع في الأمر بدءا بأخته وانتهاء بنساء صنعاء القديمة اللواتي صار الخبر وجبتهن اليومية في النميمة والقيل والقال. حرصه على التقاليد لم يمنعه من مساعدة فريديريكو من تصوير النساء بل التدخل لدى إحداهن لإحضار إيناس للنقش بالحناء على ظهر فريديريكو العاري، بل وإيجاد مخرج ديني لاختلائها بالرجلين من خلال إحضار أخيها الصغير محرما.

طارق المنتمي وجدانيا لموروث ثقافي وحضاري وديني محلي، لا يجد متعته إلا بالحديث إلى المصور الأجنبي ولو في أخص أسراره العائلية. وهذا حال يمن لا يقبل أبناؤه المتناحرون الجلوس إلى بعض إلا برعاية أجنبية ممثلة في منظمة الأمم المتحدة ولو اختارت للمهمة وسيطا من نفس الدين واللسان، على أنقاض مبادرة خليجية بدت وكأنها استهدفت لجم ثورة قائمة على الحدود تيمنا ب"ربيع عربي" خاف الكثيرون من أن تصلهم شظاياه حرية ومساواة وكرامة اجتماعية. وليس طارق بأفضل من يمن خان ثورته وتركها معلقة على جسر انتظار كما إيناس الواقفة على جسر صنعاء في انتظار حبيب "خائن" لا عهد له. لقد كان بإمكان اليمن أن يتملك قراره الوطني المسلوب لعقود لو عرف كيف يحافظ على "ثورته" من الترويض ومحاولات التهريب. فشل جعل طارق يعود عن "غيه" طيعا إلى فراش زوجية محضر سلفا، واليمن عن "ثورته" طيعا إلى بيت الطاعة الخليجي بعد أن حاول بعض من أبنائه ولا يزالون جعله "خادما" لدى السيد الفارسي الطامع في التمدد والتوسع في الشمال كما الجنوب.

إيناس.. ثائرة في محطة انتظار

إيناس، منقشة يتيمة لا تملك من الدنيا غير كرامتها التي حاولت بلقيس تمريغها في التراب حين اتهمتها بسرقة فستانها قبل أن تنقذها من الورطة شجاعة خادمة وبراءة طفلة صغيرة. هي فاتنة، ثائرة متمردة على التقاليد لكنها في الآن ذاته تحتاج إلى محرم لممارسة عملها ولو كان طفلا صغيرا. عندما أحبت طارقا أعلنت عن حبها وقبلت أن تتحدى بمعيته قيود المجتمع بل أن تترك جدتها وأخيها المحتاجين لها في مغامرة محفوفة بالمخاطر، وصدقت وعدها قبل أن تواجه بخيانة من أحبت، ومع ذلك استمرت في التمسك بالأمل في يوم جديد قد يشرق على صنعاء.

حين ثار اليمن بشجاعة على حكم مستبد دام أكثر من ثلاثة عقود لم يحضن ثورته غير عموم الشعب، في الوقت الذي كان فيه الجيران قبل المتربصين يعتبرون البلد مجرد خلفية أو تابع يحتاج محرما أو ضامنا، فالتفوا على الثورة وأعادوا الحياة إلى المخلوع ومنحوه حصانة بعد أن رمموا أطرافه المحترقة بعمليات تجميل. وكم كان خطأ اليمن فادحا حين سلم نفسه ل"عشق" مفترض لم ينل منه غير الجفاء، كما فعلت إيناس بالضبط فوجدت نفسها وحيدة على الجسر تلاحقها عدسات المتلصص الأجنبي.

هذا جني وذاك عفريت

كم كان رائعا ذاك المشهد من الفيلم الذي ظهر فيه رئيس الشرطة ومساعده يطاردان الهاربة إيناس. لكن رئيس الشرطة الضخم كان مهتما أكثر بمنع مساعده من أن يتخطاه جريا، بالرغم من حركته البطيئة، بدل السعي إلى إلقاء القبض على المنقشة الهاربة.

وفي مشهد آخر بمحل بقالة بسيط بصنعاء القديمة، يتجادل بائع هَرِم ومساعده على صفات جني يظهر ويختفي بالمكان محاولين إقناع فريديريكو بجدية الموضوع.

مساعد البائع: هذا عفريت وليس جني..

البائع: جني ولا عفريت، كل واحد أشد من الثاني..

انتهى الفيلم وتواصل مرور الأسماء المشاركة في إنجازه على الجينيريك. لكن مشهدا ساقطا من الفيلم علا الشاشة من جديد معلنا أن الحكاية لم تنته بعد.

فريديريكو، يمشي ليلا بشوارع صنعاء فيفاجئ بمخلوق غريب يخرج من إحدى الدور. هو ذاته الذي جاء في وصف التاجر ومعاونه. يسقط فريديريكوأرضا من هول المفاجأة، فقد صدق الاثنان.

الجني والعفريت لا يزالان يسكنان صنعاء ويتحينان الفرصة لاستجماع القوى والخروج من القمقممن جديد. فالواضح أنهما الأقوى في الميدان والأفضل تسليحا والأكثر فهما للحقائق على الأرض. وتلك خاتمة تفتح مستقبل اليمن على كل الاحتمالات وتدعونا لجعل صرخة الطفلة في الفيلم، بعد أن عاقبها مدرسها،عنوان المرحلة كصرخة إنذار مدوية لعل من يعنيه مستقبل اليمن يسمعها ويستوعبها وعلى ضوئها يقدم على القرار الأصعب...