مقالات مختارة

موسيقيون وأمنجية!

1300x600
هل يمكن أن نستيقظ ذات صباح فنفاجأ بأن نقابة المهن الموسيقية قررت شطب اسم محمد عبدالوهاب لأن القنوات المناهضة للنظام المصري دأبت على إذاعة أغنيته «أخي جاوز الظالمون المدى». ثم نفاجأ بعد ذلك بشطب أم كلثوم لأن أغانيها «دارت الأيام» و«حيرت قلبي معاك» و«علموني أندم على الماضي وجراحه» محملة بإيحاءات فيها غمز في النظام وقياداته؟ إذا وجدت السؤال غريبا فأنت معذور لا ريب، لكني أنبهك إلى أن ذلك ليس مستبعدا تماما، ذلك أن نقابة المهن الموسيقية فعلتها مع المطرب الصاعد حمزة نمرة. صاحب أغاني «لسه العدل غياب» ــ و«يا مظلوم ارتاح» ــ و«ضلِّمت كده».

وللدقة فإنه لم يعاقب لهذا السبب وحده، ولكن لأن أغانيه تبثها القنوات ذاتها التي ما برحت تبث أغنية عبدالوهاب «أخى جاوز الظالمون المدى».

إذا لم تصدقني فإليك نص البيان الذي صدر عن النقابة المذكورة يوم 16 فبراير الحالي، وجاء فيه أن نقابة المهن الموسيقية «قررت إيقاف العضو المنتسب حمزة نمرة، وذلك بناء على ما ورد إلينا من أنه يقوم بالغناء في بعض القنوات التي تحرض على الجيش والشرطة والرموز الوطنية كالرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية وإهانة الدولة (هكذا ذكر النص) وهذه إهانة لنا جميعا كأعضاء مجلس الإدارة متضامنين مع القيادة السياسية». وقد وقع البيان رئيس لجنة العمل مصطفى كامل ــ وسكرتير عام النقابة أحمد رمضان.

ما فهمته أن حمزة نمرة لا يقوم بالغناء بنفسه في القنوات المذكورة (الإخوانية)، ولكنها تبث أغانيه شأنه في ذلك شأن مطربين آخرين، لكن النقابة قررت إيقافه لأن هناك شبهات تتردد حول تعاطفه مع الإخوان رغم أنه نفى وجود علاقة له بهم، ولم يثبت ذلك بحقه من جانب أي جهة أخرى. أي أن الرجل لم يفعل شيئا مخالفا للقانون يوجب معاقبته، ولكن النقابة أخذت بالشبهات وأصدرت قرارها، الذي سيؤدي إلى منع أغانيه عبر التلفزيون والإذاعة الرسمية، وقد تحذو حذوها القنوات الخاصة التي أصبحت تزايد على القنوات الحكومية في الصراع السياسي الحاصل في مصر بمختلف تجلياته.

لست مؤهلا للحديث في الشأن الفني. وبالتالي ليس لدي أي تقييم سلبي أو إيجابي لما يقدمه حمزة نمرة، لكن جانبا واحدا يهمني في الموضوع هو أن يعاقب مواطن على ما لم يرتكبه، وأن تتصرف نقابة المهن الموسيقية باعتبارها جهة أمنية تملك سلطة التحقيق والإدانة، وليس ذلك أسوأ ما في الأمر، لأن الأسوأ من ذلك أن هذا السلوك يشيع في المجتمعات التي لا تحترم القانون، الأمر الذي يفسر تفشي الظاهرة في مصر. ذلك أنه حين يعرف أن شخصا ما لا ترضى عنه السلطة لأي سبب، فإن كل الجهات التي تتعامل معه تتنافس في إنزال العقاب به والعكس صحيح، وذلك أظهر ما يكون في الشأن السياسى. فإذا اتهم المرء وتمت إدانته فإن المجتمع لا يكتفي بالعقوبة القانونية التي صدرت بحقه، ولكن كل الجهات التي تتعامل معه تراجع أوراقها وتقرر أن تعاقبه في الجانب الذي يخصها. وإذا كافأته السلطة بصورة أو أخرى فإن المزايا تنهال عليه من كل الذين يحيطون به. الأمر الذي يسلط الضوء على قوة وعمق نفوذ الإدارة في المجتمع المصري، وهي قوة لها جذورها البعيدة التي تمتد إلى العصر الفرعوني. وقد عبر عنها المثل القائل، إذا فاتك «الميري» تمرغ في ترابه. بمعنى أنه إذا فاتتك عربة السلطة فلا تتردد في أن تتمرغ في ترابها لكي تفوز بشيء من الغبار الذي خلفته. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الذوبان في «الميري» يبدو أنه جزء من الطبع المصري التقليدي.

هذا الذي أدعيه تؤيده القصة التي سمعتها نقلا عن فؤاد سراج الدين (باشا) القيادي الوفدي الراحل،
ذلك أن الرجل كان قد عين وزيرا للمواصلات في عام 1949. ومن التقاليد المرعية آنذاك أن وزير المواصلات بعد تركه للوزارة يكرم بإعطائه بطاقة تسمح له بركوب الدرجة الأولى في كل قطارات السكة الحديد بالمجان طوال حياته. وبعد قيام ثورة يوليو وحل الأحزاب ومنها حزب الوفد في عام 53 سحب منه ذلك الترخيص الذي لم يكن يستخدمه، باعتبار أن الرجل فقد حيثيته من وجهة النظر البيروقراطية، إلا أنه بعدما سمح الرئيس السادات بالتعددية الحزبية، وعاد حزب الوفد الجديد إلى الوجود في عام 78، فوجئ فؤاد باشا برسالة في صندوق بريده أعادت إليه ترخيص ركوب القطارات بالمجان، الذي كان قد سحب منه قبل 25 عاما!

تبدو القصة مضحكة لأن فؤاد باشا لم يركب القطار في حياته في أيام العز أو الهوان، إلا أنها تبين المدى الذي تذهب إليه البيروقراطية المصرية في التقاط اتجاهات الريح، وكيف أن الموظف المسؤول عن بطاقات السفر تطوع من جانبه بتنفيذ قرار حجب الترخيص في عام 53، وأن الذي حل محله بعد 25 عاما كان نسخة من سلفه فأعاد الترخيص حين عاد فؤاد باشا إلى الضوء زعيما لحزب الوفد، وربما خطر له أنه قد يأتي وزيرا أو رئيسا للحكومة يوما ما!.

الإجراء الذي اتخذته نقابة المهن الموسيقية مع حمزة نمرة لم يختلف كثيرا عما فعله موظف السكة الحديد مع الباشا، الفرق الوحيد أن موظف السكة الحديد تصرف باعتباره رجلا بيروقراطيا في وزارة المواصلات، أما الذين أصدروا قرار نقابة المهن الموسيقية فقد تصرفوا باعتبارهم مخبرين تابعين لوزارة الداخلية. لذلك لم أستبعد أن يكون محمد عبدالوهاب أو أم كلثوم ضحيتهم القادمة.



(نقلا عن صحيفة بوابة الشروق)