كتاب عربي 21

محمد حسني مبارك ممثلا

1300x600
في أحد مشاهد الشريط السينمائي (طباخ الريس) للمخرج سعيد حامد، يقرر رئيس الجمهورية (الذي يرمز إلى محمد حسني مبارك) الخروج إلى الشارع المصري لملاقاة "شعبه" والاطلاع مباشرة على المشاكل التي يعيشها بعد سنوات من الحجب، الذي طاله بتواطؤ من أقرب مستشاريه.

تجتمع الحكومة وكل أقطاب الحكم للالتفاف حول هذا المسعى، فتتفتق عبقرية أحدهم في إذاعة خبر كسوف الشمس، مصادفا ليوم خروج الرئيس، مع صدور قرار بأن يكون يوم عطلة، مشفوعا بالتشديد على ضرورة أن يلزم المواطنون بيوتهم، خوفا على صحتهم وسلامة أبنائهم. يخرج الرئيس ولا يصادف في طريقه "مواطنا" واحدا في بلد تعداد سكانه يفوق الثمانين مليونا. وفي ذروة استغرابه يهاتف مدير مكتبه مستنكرا مناورات حاشيته: "وديتوا الشعب فين يا حسن؟".

في الخامس والعشرين من شهر يناير 2011، خرجت الملايين من أبناء الشعب المصري، وهي تهتف بضرورة الإسراع في إقرار إصلاحات سياسية واجتماعية جذرية، وإنهاء سنين القهر الثلاثين التي استأثر فيها الرئيس حسني مبارك بالحكم، مطالبة الأخير بالرحيل.... الرئيس هو من غاب فعليا عن هذا المشهد الواقعي، رافضا الاستجابة ومفضلا الاختباء وراء أسوار القصر الجمهوري في استلهام للنعامة رمزا للمرحلة، بعد أن كان لسنوات طاووسا مزهوا بنفسه يوزع الابتسامات والتحايا. فاكتفى بمجرد إطلالات خجولة على التلفزيون الرسمي في جنح الظلام، في تجسيد فعلي صارخ للهوة الكامنة بين واقع الحال والمتخيل السينمائي.

قبل ذلك التاريخ بثلاثة أشهر تقريبا، التقى طباخ الريس (الممثل طلعت زكريا) برئيس الجمهورية وقتها، واستأذنه في فكرة جزء ثان كان يعتزم البدء في تصويره، وهو ما باركه مبارك بعد أن أثنى كثيرا على الجزء الأول وأبدى إعجابه به. كان ذلك قبل الثورة، ما جعل الجزء التالي من حياة الرئيس حسني مبارك يكتب بعيدا عن أوراق السيناريست يوسف معاطي في مكان آخر، تحول إلى أشهر ساحة عامة في العالم، ميدان التحرير، المكان الذي هاتف منه الرئيس -الممثل مدير مكتبه متسائلا: "وديتوا الشعب فين يا حسن؟".

كانت السينما الأمريكية أكثر من اتخذ من حياة الرؤساء مجالا للتشخيص، موزعة بين الأفلام الجدية المبنية على الحقائق التاريخية، وبين الأفلام الكوميدية التي لا يعنيها التاريخ في شيء بقدر استثمارها لمنصب الرئاسة كذريعة لأحداثها. ولعلنا نذكر أفلام: "جون كينيدي" و"نيكسون" للمخرج أوليفر ستون، و"اليوم الأخير" لريتشارد بيرس، و"إلينور وفرانكلين" للمخرج دانيال بيتري، و"رجال الرئيس" لآلان باكولا ...الخ. ولم تسع هوليوود في تناولها لحياة هؤلاء الزعماء وغيرهم إلى إضفاء أي نوع من القداسة أو التأليه عليهم، بل إنها كانت شرسة في انتقاد مراحل بعينها من فترات حكمهم، دون أدنى اعتبار لما يحاول البعض ترسيخه في بلدان العالم الثالث من ضرورة احترام القائد والبحث له عن المخرج الآمن الذي يحفظ له في التاريخ ذكرا حميدا.

ولأن السينما المصرية كانت ولا تزال (ولو بحدة أقل) رائدة على المستوى العربي، فقد كان لها السبق أيضا في التعاطي مع شخصية رئيس الدولة سينمائيا، ولو باحتشام ومعاناة كبيرين، إذ إنه لم يكن مسموحا أبدا بالاقتراب من حياة الزعيم حيا يرزق. وكل الإشارات التي حفل بها عدد من الأفلام المصرية لنظامي السادات وعبد الناصر كانت تدخل في إطار نوع من تصفية الحساب مع النظام السابق ورموزه. تم كل هذا دون بلوغ مرحلة تشخيص الرئيس، حيث اكتفت العديد من الأفلام بالإشارة إليه، إما ببث خطبه أو باستعمال صوره الرسمية كممثل للدولة، أو غيرها من الطرق، التي حاول الكثيرون استغلالها، في انتظار الفرصة المواتية للمرور إلى المرحلة القادمة، كما هو الشأن مثلا في أفلام: "العصفور"، و"أبناء وقتلة"، و"ملف سامية شعراوي"، و"أحلام صغيرة"، و"زيارة السيد الرئيس"، و"الجاسوسة حكمت فهمي"، و"امرأة هزت عرش مصر"...الخ.

في السنوات الأخيرة تطور الأمر إلى حد تخصيص أفلام كاملة للرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات ممثلة في" "ناصر 56" لمحمد فاضل، و"جمال عبد الناصر" لأنور القوادري، و"أيام السادات" لمحمد خان. وكلها أفلام لم تقم إلا بتكريس صورة الزعيم البطل الذي لا يخطئ، وهو الراعي لمصالح البلد العليا في مواجهة الأطماع الخارجية. ولم يتمكن القائمون وراء إنتاجها من الاقتراب من سلبيات حكمي ناصر والسادات، باعتبار امتداد شرعيتهما إلى حسني مبارك الناهل هو أيضا من شرعية ثورة الضباط الأحرار، ومن خلالها المؤسسة العسكرية القابضة على أمور الحكم. 

أما الرئيس مبارك، فقد جرب حظه في السينما مبكرا حين شارك ككومبارس صامت في شريط "وداع في الفجر" للمخرج حسن الإمام وبطولة شادية وكمال الشناوي ويحيى شاهين سنة 1956، وفيه لعب دوره الحقيقي كقائد لسرب الطيران في الجيش المصري.. لتتوقف مسيرته التمثيلية بعدها لعقود قبل أن يعود مجددا في عدة أفلام، باستعمال الخدع السينمائية، مصافحا إلهام شاهين في فيلم "موعد مع الرئيس"، أو متصلا على الهاتف للاطلاع على سير الأحداث في أفلام "معالي الوزير" و"النوم في العسل" و"الإرهاب والكباب" و"كراكون في الشارع".. أو ملجأ للتظلمات من خلال صورته المعلقة بالمحكمة في شريط "الحقونا"، أو مستلما لمطالب الناس في "زواج بقرار جمهوري"، قبل أن يصبح شخصية سينمائية قائمة الذات في شريط "طباخ الريس"، بالنظر إلى أن الأحداث والأماكن وملامح الممثل خالد زكي توحي بأن الرئيس المقصود هو محمد حسني مبارك.

ولعلنا سنركز أكثر على الشريطين الأخيرين "زواج بقرار جمهوري" لخالد يوسف و"طباخ الريس" لسعيد حامد، باعتبارهما الأكثر أهمية في تناول شخصية مبارك والأجد إنتاجا، وأيضا بالنظر إلى شخصيتي السينمائيين القائمين على إخراجهما. 

الخاصية المشتركة بين الشريطين، هي تقديمهما لرئيس الجمهورية بمظهر الرئيس القريب وجدانيا من الشعب والساعي إلى إرضائه وتحقيق أمنياته مهما عظمت. ففي فيلم "زواج بقرار جمهوري" قبل الرئيس، بما له من هالة وهيبة، حضور حفل زفاف شابين من عامة الناس. وفي فيلم "طباخ الريس" خرج شخصيا إلى الشوارع لتقصي الأحوال المعيشية للمواطنين البسطاء. كما أن الشريطين يجمعان على أن الرئيس محاط ببطانة فاسدة تستغل تحركاته لتلميع صورتها أمام الآخرين، من خلال الاستجابة الفورية لمطالب السكان التي تخفي في حقيقتها تخوفا من غضبة الرئيس حال معرفته بالأحوال الحقيقة للمواطنين، أو تستميت في تزوير الوقائع أو حجبها عنه. هكذا يصبح الرئيس مبرّءًا من مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. فإذا كان الرئيس رجلا بسيطا مقبلا على شعبه يأكل من أكل عموم المواطنين، فإن حاشيته تصر على التحكم في علاقته المباشرة مع هذا الشعب وتضلله عن الحقائق وترسم له صورة وردية عن واقع الحال. لكن تقديم الأمر بهذا الشكل لا يعفي في الحقيقة رئيس الجمهورية من المسؤولية باعتباره من يختار معاونيه ومستشاريه ووزرائه، وهو ما يشكل الوجه الآخر للعملة التي يحاول البعض تداولها.

يقدم الرئيس في هذين الفيلمين على أنه الملجأ الأخير للشعب  لما يتمتع به من مصداقية ونزاهة فتتوالى عليه الشكاوي والتظلمات. لكن الغريب في الأمر أن مثل هذا الطرح قد يشكل أيضا إدانة له ما دام لا يحرك ساكنا لتلبية تلك الرغبات وتغيير الوجوه الفاسدة التي بقيت مستمرة في مناصبها في شريط "طباخ الريس" نموذجا، بعد أن استبعدت الطباخ من القصر إلى غير رجعة وهو العالم بكل المؤامرات التي حيكت لتزوير الوقائع وتضليله عن الحقيقة المرة لأوضاع المواطنين. كما أن إظهار الرئيس على أنه مجرد دمية ضعيفة تتلاعب بها أيدي الحاشية إساءة إلى رمزية الرئاسة ومن يعتليها. بل إن تحول الرئيس إلى الملجأ الأوحد يؤكد حقيقة كيف تحول نظام الحكم إلى الفردانية المسيطرة لرأس السلطة في تغييب كامل لمبدأي فصل السلط والمحاسبة الكفيلين ببناء وتكريس دولة المؤسسات لا دولة الفرد (الإله).

لكن المفارقة التي يمكن مصادفتها خلال تتبع أحداث "طباخ الريس" هي حقيقة أن أفراد الشعب يعانون كثيرا قبل التعرف على شخص الرئيس، رغم القصف اليومي الذي يتعرضون له على شاشات التلفزيون الرسمي المتتبع لأتفه تحركاته واجتماعاته. ولعلنا نستشف من ذلك، أن القول بوجود رابط وجداني بين الرئيس وشعبه يبقى ضربا من الخيال العاطفي، خصوصا وأن كل من يتعرف عليه يهرب عنه بعيدا، تأكيدا لحقيقة الترهيب والتخويف التي تحكم الذاكرة الجماعية للمواطن البسيط في علاقته مع السلطة بكل ممثليها.

الخلاصة أن المحاولات المتكررة لتقديم الرئيس المصري حسني مبارك بمظهر الملاك الطاهر المستجيب لتطلعات شعبه، تفشل مع أول قراءة نقدية موازية وأول امتحان واقعي للعلاقة بين الطرفين، ممثلة في ثورة شبابية مصرية خالصة نادت برحيل "أب الأمة" المؤله في أدبيات الحزب والحكومة، بعيدا عن الفضاءات الرحبة للفيسبوك وتويتر وغيرهما، حيث تربى جيل جديد خلع عنه جلباب الآباء الخانعين.

ولعل محاولة مواجهة المواقع الاجتماعية الافتراضية بواقع البغال والجمال، كان أكبر تعبير عن تردي الفعل السياسي ببلد الكنانة وانفراط عقد العلاقة بين الحاكم والمحكوم فيها.

بعد كل ما سبق، نعود إلى ميدان التحرير، المكان الذي هاتف منه الرئيس -الممثل مدير مكتبه متسائلا: "وديتوا الشعب فين يا حسن؟".. فهناك تقرر مصير الرئيس فعليا وربما سينمائيا أيضا إذ إن الشعب حضر، ومعه عدد من السينمائيين، وغاب الرئيس ليسدل الستار على الفصل الأول من حكاية بدا اليوم واضحا أن سيناريو فصولها التالية بدأ الإعداد له منذ اليوم الذي أعلن فيه بيان المجلس العسكري عن "تخلي" مبارك عن منصبه الرئاسي. لكن السينما تعودت على أن تتحفنا دوما بالمفاجآت، فهل يكتب الفصل الأخير في ميدان التحرير يوما ما؟.