قضايا وآراء

العقيدة القتالية لتنظيم الدولة الإسلامية

1300x600
يطرح الأداء العسكري المعقد والغريب لتنظيم الدولة الإسلامية علامات استفهام كثيرة حول طبيعة عقيدته القتالية، وتعريفه لخصومه وترتيبه لأولويات الاشتباك معهم. فحتى قبل تمرد تنظيم الدولة على قيادة تنظيم القاعدة وبيان العدناني الشهير الذي أعلن فيه القطيعة مع مشروع القاعدة كانت هناك مؤشرات تدل على أن تنظيم الدولة الإسلامية قد اختار لنفسه مسارا آخر وعقيدة قتالية أخرى غير التي كانت تحدد الفعل الجهادي للقاعدة وفروعها المختلفة والتيار الجهادي بشكل عام. 

ملاحظة أساسية وجوهرية تسجل أثناء مراقبة الفعاليات العسكرية والأمنية والدعائية لتنظيم الدولة الإسلامية وهي أن التنظيم يرى أن "الآخر الجهادي" هو العدو الأول الذي يجب أن يحشد ضده عسكريا وأمنيا حتى يتم استئصاله أو إخضاعه دون إمكانية الالتقاء معه على أرضية مشتركة مهما كانت، والغريب في الأمر أن هذا "الآخر الجهادي" كلما اقتربت أيديولوجيته من الفكر الجهادي العالمي كان خيار اجتثاثه أشد إلحاحا! فنجد مثلا أن جبهة النصرة و أحرار الشام هما من تحملا النصيب الأكبر من حروب تنظيم الدولة، كما أن أيمن الظواهري وأبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي وهاني السباعي و إياد قنيبي دائما في مرمى تشهيره ودعايته الإعلامية. في المقابل كلما كان هذا الآخر "علمانيا" تضافرت فرص المصالحة والتحالف معه بل وتبويئه مناصب في التنظيم (صدام الجمل نموذجا)، أليس غريبا مثلا أن يقتل التنظيم أبا سعيد الحضرمي شرعي جبهة النصرة بتهمة الردة لأنه يأخذ البيعات من الجيش الحر، بينما يطلق التنظيم سراح قادة كبار في  الجيش الحر لأنه لم يثبت عليهم شيء! لماذا حارب تنظيم الدولة بكل ضراوة جماعة أنصار الإسلام وجيش المجاهدين في العراق وفي سوريا أحرار الشام وجبهة النصرة في الوقت الذي تنشط فيه جماعات أخرى علمانية وبعثية وصوفية في البلدين فلم يكفرها التنظيم ولم يحشد لقتالها؟

لفهم هذا السلوك الغريب ينبغي الانطلاق من مسلمة أساسية وهي أن تنظيم الدولة يريد أن يحصر الشرعية الجهادية في نفسه، ويحتكر الفعل الجهادي في العالم بما يتوافق ومصلحة "الخلافة" التي يعوزها الإجماع والتأيد من الفرقاء الجهاديين،  وبالتالي فكل كيان جهادي موازي في نظر "الخليفة" أمامه خياران إما البيعة أو القتال، وإعلان الخلافة في جوهره نعي لكل الجماعات و الكيانات الجهادية التي تنشط عبر العالم، والعدناني كان واضحا مع نفسه ومع من يهمهم الأمر عندما صرح:" أنه بإعلان الخلافة؛ صار واجبًا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم حفظه الله، وتبطل شرعيّة جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات، التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده" غير أن وجود جماعات جهادية عريقة تحضا بدعم كبار رموز ومنظري التيار الجهادي  يعتبر بمثابة تحد صعب لتنظيم الدولة  لأنه يمسه في أساس مشروعيته الوجودية باعتباره نظام "خلافة" تبطل بموجبه كل البيعات في مجال تمدده ونفوذه حتى ولو كان هذا التمدد شكليا، كبيعة رجل واحد أو وجود شعار الخلافة ورايتها في بناية أو جدار.

 بينما وجود جماعات وتيارات علمانية يصب أساسا في مصلحة هذه الخلافة لأنها لا تمثل تهديدا على مستوى الشرعية الجهادية والدينية بل إن وجودها يرسخ هذه الشرعية ويعطي انطباعا أن كيان "الخلافة" هو الإسلام النقي في بيئة بها بؤر أو نتوء علمانية، وبالتالي من السهل في مرحلة لاحقة التعامل مع هذه النتوء بالمواجهة أو الاحتواء، لأن مفتاح الصراع معها سيكون متاحا وواضحا (الإسلام ضد العلمانية) عكس ما يطرحه من صعاب وجود مشروع جهادي قوي ذي بنية أيديولوجية متماسكة كما هو الحال مع تنظيم القاعدة.  

كان واضحا مند بداية الصراع بين الفصائل الثورية والجهادية وتنظيم الدولة في سوريا أن هذا الأخير يريد تفريغ الساحة السورية من النخب والكوادر الجهادية الوازنة، من خلال الاستهداف المباشر والاغتيال المادي أو المعنوي بتجريدها من صفتها "الجهادية" عبر تهم الردة والخيانة والانحراف، وكان اغتيال أبي خالد السوري سفير القاعدة في سوريا من بواكير هذا المخطط، الذي استمر تنفيذه على قدم وساق وكانت حصيلته ثقيلة على الوجود السلفي الجهادي في سوريا, فقد استهدف تنظيم الدولة الفصائل الجهادية بأكثر من 74 سيارة مفخخة 52 منها استهدفت جبهة النصر وحركة أحرار الشام وجيش المجاهدين. كما اغتال التنظيم 34 قائدا جهاديا بينهم 15 من جبهة النصرة وحدها بينما لم يقتل من قادة الجيش الحر سوى عنصران. 

ليس خافيا أن تنظيم الدولة يكفر جميع الفصائل الجهادية في سوريا ويرى أنها الأولى بالقتال، فقد أصدرت الهيئة الشرعية بتنظيم الدولة وثيقة شرعية رسمية بعنوان "بيان الهيئة الشرعية حول الجبهة الإسلامية وقادتها"، وقد أصلت فيها لردة الجبهة الإسلامية وقادتها ومقاتليها، وفي وقت لاحق تسربت مقاطع فيديو وتسجيلات يُستنتج منها أن تنظيم الدولة يرى كفر وردة جبهة النصرة، وهو ما أكدته قيادة جبهة أنصار الدين بعد ذلك حين تقدمت بمبادرة للصلح بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة وعزت فشلها إلى رفض تنظيم الدولة مبدئيا لها لأنه يرى في جبهة النصرة جماعة من المرتدين. 

وبوتيرة أقل حدة تمكن تنظيم الدولة من تفكيك شبكة واسعة من الفصائل الجهادية في العراق والتي لم يبق منها سوى مجموعات صغيرة تابعة لجيش المجاهدين وأنصار الإسلام معظمها لا يجرؤ على القيام بأي نشاط في العلن.

البغدادي يريد أن يستفرد بالقرار الجهادي في العالم، ويسعى بكل جهد لبناء سردية جهادية ينتظم فيها كل الفاعلين الجهاديين، مع تدشين قطيعة مع الموروث العقدي والفقهي والحركي الذي تأسست عليه الحركة الجهادية على مدى ثلاثة عقود. هذه القطيعة التي ينبغي أن تتزامن مع تأسيس خطاب جهادي بديل يتبوأ فيه (البغدادي/ الخليفة) منزلة الولي الفقيه حيث خطاباته وتراثه هي مصدر الإلهام لأتباعه الذين سيضحون في سبيل "تصدير" خلافته إلى ربوع العالم. وهذا النموذج الجهادي الفريد لن يفرض نفسه إلا بتجريد كل النماذج الأخرى من شرعيتها الدينية والتاريخية، وهذا ما يفسر حجم الدعاية التي تستهدف أركان المشروع الجهادي الذي تمثله القاعدة (الظواهري، المقدسي، أبو قتادة).

في سياق تفكيك مشروع القاعدة الجهادي خرج العدناني الناطق الرسمي باسم تنظيم الدولة بتسجيل صوتي حمل عنوان "عذرا أمير القاعدة" هاجم فيه أيمن الظواهري ونعته بالمنحرف والملبس على الناس. كما امتلأت صفحات تنظيم الدولة ومنتدياته على الانترنت بمواد نصية ومرئية ومسموعة تروج لفكرة انحراف القاعدة وشيوخها، فظهرت سلسلة من الشهادات أهمها سلسلة "المفاجآت الكبرى في تاريخ الجهاد.. الظواهري الذي لا يعرفونه" التي نُشرت على موقع تابع لتنظيم الدولة وتحدث صاحب الشهادة بإسهاب عن محطات في مسيرة الظواهري وشواهد على انحرافه وتنكبه سبيل "المجاهدين".

في العدد السادس من مجلة دابق التي تصدر عن مؤسسة إعلامية رسمية تابعة لتنظيم الدولة ارتفع إيقاع الهجوم على القاعدة ومنظريها، وتوسعت دائرة المتهمين بالإرجاء والانحراف لتشمل  زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، بينما كتب في نفس العدد على صورتي المقدسي وأبو قتادة عبارة "شيوخ الضلال".

يرى نشطاء القاعدة على الإنترنت أن إصدار  تنظيم الدولة لمجلة ناطقة بالإنجليزية هدفه حصار مجلة "أنسباير" التي تصدرها القاعدة وتحجيم تأثيرها على الجمهور المسلم في الغرب في أفق تقويض وإفشال  استراتيجية "الذئب المنفرد" التي يتبناها تنظيم القاعدة، مقابل استراتجية "الهجرة إلى ارض الخلافة" التي يتبناها تنظيم الدولة، فهذا الأخير يخاف أن يتعزز خطاب القاعدة لدى مسلمي الغرب وبالتالي تتعزز فرص الانجاز المحسوب لتنظيم القاعدة. 

 يعتبر "وهج الانجاز" أو جاذبية الانجاز قيمة أساسية في تشكل الظاهرة الجهادية ورفدها بعناصر الاستمرار والديمومة، فالذي صنع القاعدة مثلا ومكنها من الامتداد، وأمدها بالزخم الذي شيدت عليه امبراطوريتها هو "منجز 11سبتمبر". كما أن تنظيم الدولة الذي استظل لفترة طويلة بمظلة القاعدة اعتمد على " وهج الانجاز" في بناء كيانه وجدب الجهاديين إليه، من خلال عمليات كبيرة متقنة مع الإبداع في تصويرها و عرضها على شكل أفلام هوليوودية مثيرة. وبالتالي يسعى تنظيم الدولة الإسلامية جاهدا لحرمان القاعدة من أي انجاز كبير يعيدها إلى مربع الاهتمام والتداول الإعلامي، فعملية احتجاز الرهائن في فرنسا التي قام بها أحمد كوليبالي بالتزامن مع عملية شارلي ابدو التي نفدها الأخوان كواشي وهما عنصران منتميان للقاعدة ربما تندرج في هذا الإطار، فكوليبالي حرص على تسجيل بيان قبل العملية أعلن فيه الولاء للبغدادي، وقد يكون الدفع بكوليبالي في خضم عملية كبيرة للقاعدة هدفه منع القاعدة من الاستفراد بمنجز كبير في أوروبا. في سوريا أيضا يحرص تنظيم الدولة على إفشال عمليات كبيرة لا يريد أن تُحسب لخصومه خصوصا جبهة النصرة، فبعد أيام من بدء جبهة النصرة لعملية تحرير بلدتي نبل والزهراء في حلب أرسل تنظيم الدولة سياراته المفخخة إلى حواجز جبهة النصرة هناك، للحيلولة دون نجاح الجبهة في اقتحام أكبر معقل للميلشيات الشيعية الموالية لنظام الأسد. إضافة إلى إفشال التنظيم جهود جبهة النصرة لفك الحصار عن حمص، وتحرير اللواء 80 والمدينة الصناعية وغيرها من المواقع التي يمكن أن يشكل تحريرها محطات فارقة في مسار الثورة السورية.

إذن، تقوم العقيدة القتالية لتنظيم الدولة على الوصاية واحتكار الفعل "الجهادي" من خلال تعميم مسمى " الصحوات" و"المرتدين" على "الآخر الجهادي" وتصنيف هذا "الآخر" في رأس قائمة الأعداء الواجب اجتثاثهم ماديا ورمزيا قبل غيرهم، وكذا التعامل بكل حزم و قسوة مع امتداد وعمق هذا "الآخر"  كالعشائر والحواضن الشعبية (عشيرة الشعيطات نموذجا). كل هذا من أجل تأمين "شرعية الوجود" ككيان سني ضارب لا ينازعه أحد في تمثيل السنة أو يهدد شرعية خلافته. وبعد تصفية هذا العدو القريب أو الأقرب ينتقل التنظيم إلى الذي يليه في القائمة الأعداء والخصوم.